زینب علیها السلام نموذج القیادة فی المحنة
۱۳۹۴/۱۰/۰۱
قال الإمام السجّاد علیه السلام لعمّته زینب علیها السلام: "أنت بحمد الله عالمة غیر معلّمة وفهیمة غیر مفهّمة".
المحن محکّ الصدق والصادقین
إنّ حقائق وقیمة ومعادن النّاس إنّما تتجلّى أکثر ما تتجلّى فی أوقات الأزمات والمحن وتحت ضغط المعاناة والمکابدة للمشاقّ.
ولهذا کانت الإشارة الإلهیّة إلى نوعیّة خاصّة من النّاس وهم المجاهدون الصابرون الصامدون الثابتون المضحّون حیث قال: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَیهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن یَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِیلًا﴾.
ولئن کانت الأزمات بما تأتی به من شدّة وعنف أحیاناً تتسبّب بالکثیر من المعاناة النفسیّة إضافة إلى الجسدیّة والمادیّة والمعنویّة، فإنّها تشبه المرجل الذی تغلی فیه العواطف والمشاعر، وتنصهر فی ناره وفی غلیانه النّفوس بکافّة أبعاده، وما تحمل من مبادئ وقیم على وقع ما تثیره من توتّرات وتهدیدات وأخطار تؤدّی إلى اختلاط الأمور وتداخلها، وتشوّش الرؤى، وتزلزل النّفوس وخوار القوى. وینعکس تذبذباً فی المواقف وتراجعاً عن المبادئ.
والتنویه الإلهیّ فی الآیة السابقة یشیر إلى ذلک أنّ هؤلاء الصادقین من صفاتهم الثبات وعدم التبدیل، لا فی القناعات ولا فی المعتقدات ولا فی الآراء ولا فی الرؤى وحتّى فی المواقف وإن رأوا الموت فیمن قضى على هذا الطریق نحبه.
فالأزمات والمحن هی المحکّ الذی یُحکُّ به النّاس لتظهر حقائقهم ومعادنهم، فبالمحکّ یظهر الجوهر من الحجر، وخصوصاً من یتحمّل مسؤولیّة القیادة، فالقیادة الماهرة الحاذقة القادرة والناجحة أکثر ما تتجلّى فی أوقات المحن والأزمات وتحت صریر أنیاب النکبات والمآسی.
ومن أهمّ النماذج التی تستحقّ أن تدرس فی هذا المجال هو نموذج السیّدة زینب علیها السلام.
الأخطار التی واجهتها زینب علیها السلام
لا شکّ ولا ریب أنّ زینب علیها السلام تحمّلت فی نهضة الحسین علیه السلام وثورته مسؤولیّات جساماً وأوکلت إلیها مهامّ قبل المسیر إلى کربلاء وفیها وبعد الواقعة، من موقع المعاضدة لإمام زمانه، فتارة کان هذا القائد هو الإمام الحسین علیه السلام وأخرى صار ابن أخیها الإمام السجّاد علیه السلام.
ومن موقع القیادة واجهت أخطاراً تتلخّص بأمرین: أوّلهما یتعلّق بدین الله دین جدّها الإسلام، حیث عبّر الإمام الحسین علیه السلام عن هذا الخطر بما ردّ به على مروان بن الحکم حیث قال: إنی آمرک ببیعة یزید أمیر المؤمنین، فإنّه خیر لک فی دینک ودنیاک، فقال الحسین علیه السلام: "إنّا لله وإنّا إلیه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بلیت الأمّة براع مثل یزید....
والخطر الثانی: هو نفس بیت النبوّة الذی تعرّض لخطرین واحد له علاقة بطمس نوره وإغلاقه کبابِ هدایة، بمعنى ضرب الإمامة فکراً وعقیدة، وثانیاً: اجتثاثه بمعنى الإجهاز على السلالة بالقتل. وتأتَّى عن حوادث الطفّ مجموعة أخرى من الأخطار تتعلّق بالأرامل والأیتام ومعاناة السبی وشماتة الشامتین وسیاط الجلّادین وغیر ذلک.
إلّا أنّ الخطرین الرئیسین هما: تدمیر الإسلام وتغییره ومسخه، والثانی: اقتلاع الإمامة مادیّاً وفکریّاً وعقائدیّاً. أی إطفاء نور آل البیت.
زینب علیها السلام فی المواجهة قائد
لقد لخّص الإمام الحسین علیه السلام نتائج القیام والنهوض فی مواجهة الطاغیة فقال: "من لحق بنا استشهد ومن تخلّف عنّا لم یبلغ الفتح"4 فالنتیجة هی شهادة أبطال هذه الثورة، ولکن ثمّة نتیجة أخرى هی حرمان المتخلّفین عن الالتحاق بالرکب الحسینیّ من الفتح ولیس فقط من النصر والغلبة.
إلّا أنّ الإمام الحسین علیه السلام أشار إلى أنّ تحقیق أهداف الثورة والقیام والنهوض له ثمنان أو بعبارة أخرى له تدبیران إلهیّان عبّر عنهما بقوله: "شاء الله أن یرانی قتیلاً". "شاء الله أن یراهنّ سبایا".
فالرکن الأوّل لتحقیق الأهداف ومواجهة الأخطار هو جهاد الحسین علیه السلام وصحبه واستشهادهم بالکیفیّة التی حصلت یوم العاشر من المحرّم، والرکن الثانی من التدبیر الإلهیّ لتؤتی النهضة أکلها وتنتج ثمرها هی تحمّل زینب علیها السلام والنساء والأطفال السبی ومواجهة الظالمین.
فقائد المواجهة العسکریّة فی ساحات کربلاء هو الحسین علیه السلام، وقائد المواجهة الجهادیّة فی قصور الظالمین وصحارى السبی وسیاط الجلّادین هو زینب علیها السلام ، وبنجاحها بهذه القیادة یکتمل النجاح للثورة الحسینیّة.
إنّ المنصب القیادیّ الذی تبوّأته زینب فی المسیرة الحسینیّة اقتضت أن تحمل صفات تؤهّلها للنجاح فیها إذ لا یستطیع أن یتحمّلها إلّا من کان معصوماً أو قاب قوسین أو أدنى من ذلک، بمعنى العصمة الفعلیّة وهذا ما أشار إلیه الإمام السجّاد علیه السلام بقوله لها: "أنت بحمد الله عالمة غیر معلّمة وفهمة غیر مفهّمة".
وهی تحتاج إلى الشجاعة وقد ورثتها من أبیها علیّ علیه السلام، واحتاجت إلى بیان لا یقلّ عن بیان أمّها بل بیان أبیها سیّد البلغاء، ولذا قال فیها من سمعها وهو حذیم الأسدیّ: لم أر والله خفرة قطّ أنطق منها، کأنّها تنطق وتفرغ عن لسان علیّ علیه السلام، وقد أشارت إلى النّاس بأن أنصتوا، فارتدّت الأنفاس، وسکنت الأجراس7، وذلک عندما خطبت النّاس فی الکوفة، والشخص نفسه - أی حذیم - یصف أثر کلامها فیقول: فرأیت النّاس حیارى قد ردّوا أیدیهم فی أفواههم، وبدأوا بالبکاء وبانت علیهم علامات الحیرة والندم.
هذا إضافة إلى التربیة الخاصّة التی حظیت بها من أبیها وأمّه، وکذلک الظروف والمحن التی کابدتها قبل عاشوراء بما أهلّها لتحمّل ما حملته فی ذلک الظرف.
نموذج النجاح فی المحن
إنّ زینب علیها السلام لم تنجح فقط فی القیادة فی المحنة، ولکنّها شکّلت النموذج للنجاح فی القیادة فی المحن حیث استطاعت بعد شهادة الإمام الحسین علیه السلام وابتداءً من هجوم الجیش على الخیام، أن تدیر الموقف فحفظت الأطفال والنساء والإمام السجّاد، وکذلک حفظت سلالة الإمامة فی قصر ابن زیاد بما أثار تعجّبه حینما ألقت نفسها علیه فادیة له بنفسه، وکذلک فی مواجهة طاغیة الزمان فی قصره، وفی هذا الموقف نقول: إنّ القائد الفذّ هو الذی یستطیع أن ینقل الأزمة التی یرید عدوّه إیقاعه فیها إلى دیار العدوّ وإلى معسکر العدوّ وإلى نفس العدوّ.
فقد ألقت زینب علیها السلام خطبتها فی مجلس الطاغیة فهزّت أرکانه وزلزلت بنیانه ونکّدت علیه فرحته بما اعتبره نصراً وإنجازاً، وملأت مجلسه وحاضریه الرعب فی قلوبهم، وغلب علیهم التوتّر والخوف وقد قالت الدکتورة بنت الشاطئ فیها: أفسدت زینب أخت الحسین على ابن زیاد وبنی أمیّة لذّة النّصر وسکبت قطرات من السمّ الزعاف فی کؤوس الکافرین.
خاتمة
ویصحّ القول إنّ زینب علیها السلام قد أعلنت نتیجة المواجهة عندما قالت لیزید لعنه الله: "فکد کیدک، واسع سعیک وناصب جهدک، فوالله لا تمحو ذکرنا ولا تمیت وحینا".
فالبیت الهاشمیّ ونبوّته والإمامة باقیة والإسلام المرموز إلیه بالوحی باقٍ، وأمّا الباغی فله عکس ما أمل: "ولا یرحض عنک عارها".
نعم لقد تحمّلت زینب علیها السلام المسؤولیّة ونجحت فکانت عند حسن ظنّ ربّها عندما قبلت أن تعانی فی طریق الحقّ وفی سبیل الله، قابلة وراضیة بالمشیئة الإلهیّة.
المصدر : کتاب زاد عاشوراء، جمعیة المعارف الاسلامیة