عندما ارتکب الصهاینة
جریمة حرق المسجد الاقصى فی 21 آب 1969 قالت رئیسة وزراء کیان العدو آنذاک
جولدا مائیر: "لم انم لیلتها وأنا أتخیل کیف أن العرب سیدخلون إسرائیل
أفواجا أفواجاً من کل حدب وصوب ....لکنی عندما طلع الصباح ولم یحدث شیء
أدرکت أن بمقدورنا أن نفعل ما نشاء فهذة أمة نائمة......"!!.
هل حقاً أن إدراک جولدا مائیر کان فی محله وأن هذه الأمة التی کانت خیر أمة أخرجت للناس قد تحولت بالفعل إلى أمة نائمة ؟!!
تمشیاً مع متطلبات العقیدة الصهیونیة المتعطشة دائماً وأبداً لسفک الدم وإزهاق أرواح الأبریاء من أطفال ونساء وبنات وشیوخ وشبان فلسطین المدنیین العزل، وإمعاناً فی تنویع وتحدیث وتطویر الوسائل والأسالیب والآلیات والأدوات الصهیونیة لاقتلاع الشعب الفلسطینی من أرضه وطرده منها، مارست العصابات الإرهابیة الصهیونیة بحق هذا الشعب البطل أبشع صور التعذیب والتنکیل، ودأبت تلک الزمر الإرهابیة على اقتحام البلدات والقرى الفلسطینیة والعمل على سفک دماء أهلها بدم بارد، والقیام بتدمیر ونسف وحرق المنازل وبیوت العبادة والدوائر العامة والباصات والأسواق وکل ما وصلت وتصل إلیه أیادیهم.
ولأن المسجد الأقصى المبارک الذی یعتبر أولى القبلتین وثالث الحرمین الشریفین بالنسبة للمسلمین فی العالم لم یسلم من إرهاب العصابات الصهیونیة، ولأن الذکرى الثالثة والأربعین لجریمة حرقه من قبل متطرفین "إسرائلیین" تتوافق مع الحادی والعشرین من الشهر الجاری الذی یتوافق بدوره هذا العام مع عید الفطر المبارک، یستدعی الواجب ضرورة التوقف المطول عند هذه الجریمة النکراء لإعادة إلقاء الأضواء علیها وعلى نتائجها وإرهاصاتها.
طوال خمسة وأربعین عاماً من احتلال الشطر الشرقی لمدینة القدس ظل المسجد الأقصى بشکل متواصل من أولویات أهداف التغییر عند سلطة الاحتلال "الإسرائیلیة" الغاشمة، بزعم "وجود جبل الهیکل الیهودی تحت أرضه"!! وقد اتخذت عملیات تغییره أشکالاً مختلفة منها العبث بمحیطه وباطن أرضه وجدرانه وکل شیء فیه، والتحدی السافر لرواده وعملیات الاقتحام المتتالیة له، التی قام بها "الإسرائیلیون" وما زالوا یقومون بها بشکل أحمق ومجنون حتى أیامنا هذه.
فمنذ وقوع الشطر الشرقی لمدینة القدس فی قبضة الاحتلال فی الیوم الثانی لعدوان حزیران 1967، دأب المتطرفون "الإسرائیلیون" على اقتحام ساحة المسجد بین الحین والآخر وتدنیسها من خلال إقامة حفلات الغناء والرقص والمجون والخلاعة بداخلها. ولربما أن اقتحام الإرهابی الصهیونی الأرعن آرئیل شارون مع نفر من أعوانه الأشرار فی 28 أیلول 2000 ساحة المسجد تحت سمع وبصر حکومة حزب العمل التی کان یرأسها آنذاک الإرهابی الصهیونی الآخر أيهود باراک کان الأسوأ من نوعه والأکثر استفزازاً وتحدیاً لمشاعر العرب والمسلمین بمن فیهم الفلسطینیین طبعاً، إذ شکل الشرارة التی أشعلت فتیل الانتفاضة الشعبیة الفلسطینیة الثانیة التی حملت اسم المسجد المبارک.
لقد بدأ المتطرفون "الإسرائیلیون" حملاتهم التغییریة والتهویدیة للمدینة المقدسة مع لحظة وقوع الشطر الشرقی لمدینة القدس فی قبضة الاحتلال فی 6 حزیران 1967، وتواصلت هذه الحملات فی ظل "اتفاقیة أوسلو" اللعینة وخلال ما أعقبها من مفاوضات وتفاهمات عقیمة بین الفلسطینیین و"الإسرائیلیین" تارة برعایة رباعیة منحازة وطوراً برعایة أمیرکیة أکثر انحیازاً، وتصاعدت وتیرتها فی ظل حرب الإبادة الجماعیة المستمرة التی یواصل الجنود "الإسرائیلیون" شنها ضد الفلسطینیین الآمنین بطریقة عدوانیة سافرة.
سبقت الحملات المسعورة بناء جدار الفصل العنصری، واستمرت فی ذروة بنائه وبعد الانتهاء منه، ولا یبدو أن لها نهایة أو مستقراً فی ظل استمرار المطامع "الإسرائیلیة" التوسعیة وفی ظل انحیاز أمیرکی وتواطؤ أوروبی وخضوع رسمی عربی کامل ومهین للاملاءات الأمیرکیة ـ "الإسرائیلیة" المشترکة. واکتست الحملات ولم تزل وجوهاً وأقنعة عدیدة ومتنوعة، وتم التعبیر عنها بوسائل وطرق شریرة وشیطانیة مختلفة ومتباینة، ومن خلال العدید من الحلقات والمحطات التی ترکت آثارها المؤلمة والموجعة على العرب والمسلمین، وبالخصوص على الفلسطینیین وبأخص الخصوص على المقدسیین، بحیث بات من الصعب التکهن باحتمال محوها من ذاکرة أجیالهم المتعاقبة.
لا ریب فی أن محاولة الإجهاز على المسجد الأقصى المبارک عن طریق الحرق فی 21 آب 1969، التی تتصادف ذکراها الثالثة والأربعون فی هذا الشهر، قد کانت من أبرز محطات حملات التغییر والتهوید "الإسرائلیة" الإجرامیة. فتلک المحاولة التی وقف وراءها نفر من المتطرفین "الإسرائیلیین" الذین ما أضمروا ولا أظهروا غیر الحقد والکراهیة للفلسطینیین والعرب عامة، قد جرت بإیعاز وتشجیع من الدوائر السیاسیة والأمنیة "الإسرائیلیة" الرسمیة.
فی إطار تلک المحاولة الإجرامیة قام المتطرفون "الإسرائیلیون" بحرق المسجد بطریقة لا یمکن لسلطات الاحتلال أن تکون بمنأى أو بمعزل عنها، إذ أنها قامت بقطع المیاه عن منطقة الحرم فور ظهور الحریق، وحاولت منع أخیار القدس وسیارات الإطفاء التی هرعت من البلدیات العربیة من الوصول إلى المنطقة للقیام بعملیة الإطفاء. ولولا استماتة هؤلاء الأخیار فی عملیة الإطفاء لکان الحریق قد التهم قبة المسجد المبارک، إذ أنهم اندفعوا بقوة وإصرار عبر النطاق الذی ضربته قوات الاحتلال "الإسرائیلیة" وتمکنوا من إکمال مهمتهم. لکن وبرغم تلک الاندفاعة البطلة إلا أن الحریق أتى وللأسف على منبر المسجد وسقوف ثلاثة من أروقته وجزءٍ کبیر من سطحه الجنوبی.
وفی محاولة یائسة لطمس معالم الجریمة عملت "إسرائیل" على التعمیة على جریمتها من خلال ادعائها أن "تماساً کهربائیاً تسبب فی الحریق"، لکن تقاریر المهندسین الفلسطینیین دحضت ذلک الإدعاء، وأکدت أنه تم بفعل أید مجرمة أقدمت على تلک الفعلة الشنیعة عن سابق إصرار وتصمیم وترصد، الأمر الذی أجبر قادة العدو على التراجع عن ادعائهم وتحویل الشبهة إلى شاب أسترالی یدعى دینیس مایکل ولیام موهان. وبالفعل قامت "إسرائیل" باعتقال ذلک الشاب، الیهودی من أصل أسترالی، وتظاهرت بأنها ستقدمه للمحاکمة فی عملیة التفاف احتیالیة لامتصاص غضبة الفلسطینیین وإدانات العرب والمسلمین والالتفاف على المنظمة الدولیة، لکنها بدل أن تفعل ذلک أطلقت سراحه بذریعة أنه کان "معتوهاً". وهکذا قیدت "إسرائیل" جریمتها الإرهابیة النکراء تلک ضد معتوه، کعادتها بعد کل جریمة إرهابیة یرتکبها جنودها ومواطنوها بحق الفلسطینیین وأملاکهم وأوقافهم.
قیام المتطرفین "الإسرایلیین" بارتکاب جریمة حرق المسجد الأقصى وإقدام حکومتهم على معالجتها بطریقة استفزازیة أثارت فی حینه هیاجاً کبیراً فی الأوساط العربیة والإسلامیة لما یمثله المسجد من قیمة کبرى على الصعد الدینیة والحضاریة والإنسانیة، استوجبا قیام مجلس الأمن الدولی بإصدار قراره الشهیر الذی حمل الرقم 271. وفی ذلک القرار أدان المجلس "إسرائیل" لتدنیسها المسجد، ودعاها إلى إلغاء جمیع التدابیر التی من شأنها المساس بوضعیة المدینة المقدسة. وعبر القرار عن حزن المجلس للضرر الفادح الذی ألحقه الحریق بالمسجد فی ظل الاحتلال العسکری "الإسرائیلی" الغاشم. وبعد أن استذکر القرار جمیع القرارات الدولیة السابقة التی أکدت بطلان إجراءات "إسرائیل" التی استهدفت التغییر فی القدس المحتلة، دعاها من جدید إلى التقید بنصوص اتفاقیات جنیف والقانون الدولی الذی ینظم الاحتلال العسکری. کما دعاها إلى الامتناع عن إعاقة عمل المجلس الإسلامی فی المدینة، المعنی بصیانة وإصلاح وترمیم الأماکن المقدسة الإسلامیة. ویذکر أن القرار الدولی صدر بأغلبیة 11 دولة وامتناع أربع دول عن التصویت من ضمنها الولایات المتحدة.
أجمع المحللون السیاسیون المهتمون بقضیة فلسطین على أن حریق المسجد الأقصى المتعمد مثل محطة رئیسیة من محطات الإرهاب "الإسرائیلی" وشکل حلقة بارزة من حلقات المسلسل "الإسرائیلی" المستمر للممارسات اللاأخلاقیة واللاإنسانیة بحق الفلسطینیین وأملاکهم وأوقافهم وأماکن عباداتهم الإسلامیة
فمنذ احتلال القدس وحتى الآن، لم یکف المتطرفون "الإسرائیلیون" عن ارتکاب المجازر الإجرامیة بحق المصلین فی المسجد الأقصى الشریف ولم یکفوا عن محاولة اقتحامه والتهدید بهدمه ونسفه بالمتفجرات وضربه بالصواریخ لإقامة هیکلهم المزعوم فوق أنقاضه. ویذکر أن مجزرة عام 1990 کانت واحدة من المجازر البربریة التی ارتکبها هؤلاء الأشرار بحق من اعتادوا على التواصل مع الله من خلال الصلوات فی المسجد الأقصى من منطلق إیمانی وحرص أمین ومخلص على تأکید هویة الأقصى العربیة والإسلامیة. فی تلک المجزرة الرهیبة هدر "الإسرائیلیون" دم 22 فلسطینیاً غیلة وغدراً وهم فی لحظات الخشوع بین یدی رب العالمین.
هذا ولم یوقف "الإسرائیلیون" الحفریات حول المسجد المبارک وفی باطن أرضه وجدرانه وفی الأماکن المحیطة به لحظة واحدة. فقد تواصلت الحفریات بشکل مسعور ومحموم بذریعة البحث والتنقیب عن آثار هیکل سلیمان وذرائع أخرى واهیة. ولم تستثنٍ الحفریات بیتاً عربیاً أو مدرسة أو دار علم یملکها عربی. وبموازاة ذلک، دأبوا منذ عام 1968 على حفر الأنفاق تحت الحرم القدسی الشریف. وفی العام المذکور شرعوا بحفر نفق عمیق وطویل أدخلوا إلیه سفر التوراة وشیدوا فی داخله کنیساً یهودیاً. وبلغت عملیة حفر الأنفاق ذروتها فی أیلول 1996، عندما أقدموا على حفر نفق یمر أسفل السور العربی للمسجد ویربط بین حائط البراق وطریق الآلام، الأمر الذی أثار فی حینه حفیظة المقدسیین وأشعل موجة من المواجهات المسلحة التی اتسعت رقعتها لتشمل جمیع الأراضی الفلسطینیة المحتلة. وأسفرت تلک المواجهات عن سقوط 65 فلسطینیاً و 15 جندیاً إسرائیلیاً. وقد حصل کل ذلک فی ظل تنامی الحدیث عن السلام الکاذب الذی تواتر على خلفیته مؤتمر مدرید المشؤوم واتفاقیة أوسلو اللعینة.
ویُذکر أنه فی ظل احتفال الفلسطینیین بتحریر قطاع غزة فی عام 2005، تعالت أصوات "إسرائیلیة" منکرة من هنا وهناک مهددة بقصف المسجد الأقصى بالصواریخ من الجو والبر أو اقتحامه وتدمیره. ففی السادس من حزیران ذلک العام، حیث توافقت الذکرى ألـ 38 لاحتلال مدینة القدس، فشلت مجموعات یهودیة متطرفة رافقها حاخامات ونواب "إسرائیلیون" یمینیون وشخصیات "إسرائیلیة" شعبیة فی اقتحام المسجد بشکل جماعی عبر باب الأسباط بعد أن تصدى لها حراسه والمرابطون بداخله ومن وحوله. وفی لیلة التاسع من آب فی ذات العام تکررت المحاولة عبر بابی حطة والسلسلة، إلا أنها منیت بالفشل أیضاً. ومنذ الرابع عشر من ذات الشهر والعام الذی توافق مع ذکرى ما یسمونه "خراب الهیکل الثانی"، استأنف المتطرفون الیهود محاولات اقتحام المسجد جماعیاً وفردیاً. وفی واحدة من تلک المحاولات الإجرامیة، ألقت الشرطة "الإسرائیلیة" القبض على متطرفین حاولا الدخول إلیه عبر بابین مختلفین.
وفی الأعوام السبعة الأخیرة، بین 2006 و 2012 الجاری، تکررت المحاولات مترافقة مع تهدیدات مباشرة من قِبَلِ أعضاء فی الکنیست "الإسرائیلی" طالبوا فیها بتدمیر المسجد انتقاماً لقتلاهم وفی محاولات یائسة لتحریر أسراهم لدى المقاومتین الفلسطینیة واللبنانیة!!
أتذکر أیضاً أنه بینما کانت انتفاضة الأقصى المجیدة لم تزل بعد فی أوج توقدها فی کل من الضفة الغربیة وقطاع غزة، تمحورت المخاوف الفلسطینیة بصورة خاصة حول القدس والمخاطر المحدقة بها والمستقبل المظلم الذی یتهدد عروبتها ذلک لأن "الإسرائیلیین" کانوا یعملون على إعادة رسم جغرافیتها بالکیفیة التی تلائم طموحاتهم التهویدیة والاستیطانیة التوسعیة.
هذا وتظافرت المخاوف على المسجد الأقصى بشکل خاص ومدینة القدس بشکل عام لتبلغ مبلغاً من الخطورة لم تبلغه من قبل مع قیام السلطات "الإسرایلیة" فی مطلع عام 2010 بافتتاح ما أسمته حکومة تل أبیب "کنیس الخراب" على بعد بضعة أمتار من المسجد الأقصى.
وهذا العام وبعدما اتخذت بلدیة الاحتلال "الإسرائیلی" فی مدینة القدس فی الحادی والثلاثین من شهر تموز الماضی قراراً قضى بتحویل باحات المسجد الأقصى إلى حدائق وساحات عامة وفتحها أمام دخول الیهود إلیها وقت ما یشاءوون تکون تبعیة تلک الباحات قد تحولت من المسجد الأقصى إلى البلدیة، وتکون المخاوف الفلسطینیة قد بلغت ذروتها، باعتبار أن هذا الأجراء التعسفی وما سبقه من إجراءات تعسفیة مماثلة جاءت جمیعها فی إطار التهیئة لتحقیق الحلم الصهیونی فی إقامة الهیکل الیهودی المزعوم على أنقاض أولى القبلتین وثالث الحرمین.
إنه لمن دواعی الأسف والأسى أن یحدث کل ذلک فی ظل استمرار الخلاف الفلسطینی – الفلسطینی وحالة الانقسام والتشرذم القائمة بین من یفترض أن یکونوا إخوة ورفاق النضال ضد العدو "الإسرائلی" المشترک، الأمر الذی یستدعی طرح ذات السؤال الذی اعتدت على طرحه فی السنوات السبع الأخیرة مع قدوم کل ذکرى جدیدة: ترى إلى متى سیستمر هذا الوضع الشاذ الذی تحولت الوحدة الفلسطینیة معه إلى حلم بات بعید المنال ؟!!!
بقلم: محمود کعوش؛ کاتب وباحث سیاسی فلسطینی