الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذی لم یلد ولم یولد ولم یکن له کفواً أحد، أحمده حمداً لا یحد وأشکره شکراً لا یعد، والصلاة والسلام على خیر نبی رکع لربه وسجد، وعلى آله وصحبه ومَن مِن نورهم استمد..أما بعد:
فإن من آثار المساجد الاجتماعیة إیجاد التکافل الاجتماعی بین المسلمین. فالمسجد هو وسیلة التعارف الیومیة؛ حیث یتعارف أبناء الحی الواحد، ومع مرور الأیام یألف بعضهم بعضاً، وتتکون بینهم المحبة فی الله ثم تتقوى بینهم أواصر الأخوة الإسلامیة.
وعند ذلک تظهر آثار هذا التعارف وهذه الأخوة فی الله فی ترابط أفراد المجتمع وانسجامهم جمیعاً فی أسرة واحدة، فالکبیر یرحم الصغیر ویعطف علیه، والصغیر یحترم الکبیر ویوقره، والغنی یجود على الفقیر، وإذا وقع أحد أفراد الحی بمصیبة أو أصابته جائحة فی ماله وجد من إخوانه من یواسیه ویعیده إلى حال کریمة.
وبهذا یشعر الفرد أنه لیس مقطوعاً، وإن لم یکن له أسرة فی بیته فهو فرد من أسرة کبیرة، فإذا فُقد من المسجد سأل عنه إخوانه على الفور، فإن کان مریضاً عادوه، وإن کان مسافرًا تفقدوا أسرته ورعوها کما لو کان موجوداً.
فالمسجد عامل مهم فی بناء المجتمع؛ لأنه یجمع الأفراد على أهداف واضحة مشترکة تتسع للجمیع ولا یؤدی التنافس علیها إلى إثارة الحقد والبغضاء وإرادة الشر بل یؤدی التنافس علیها إلى زرع المودة والرحمة فی القلوب وإرادة الخیر للناس جمیعاً.
ومسجد الحی هو بدایة التعارف والتآلف، لأن مداومة اللقاء فی جو المسجد الروحی والصلاة جماعة فیه من أقوى الروابط التی تربط بین جماعة المسلمین، إضافة إلى ما یقوم به إمام المسجد من تذکیر الجماعة بواجبهم فی التآلف والتآخی وإصلاح ذات البین.
وهذا التعارف والتآخی مرحلة لتعارف أکبر وتآلف أشمل ، وذلک حیث یجتمع المسلمون یوم الجمعة فی القریة الواحدة أو بعضهم فی المدینة حیث تتعدد الجوامع، ومهمة الخطیب فی هذا المجال أن یکمل ما بدأه المسلمون من التآخی فی أحیاء مختلفة ومساجد متعددة، وذلک بالترکیز على معانی الأخوة الإیمانیة ولزوم الجماعة الإسلامیة، حتى یخرج المسلمون من المسجد وهم یشعرون بأن لهم إخوة فی الله کثیرین، ویکفی أنهم یرون منهم یوم الجمعة هذا الحشد الکبیر.
إن المسلم یوم الجمعة لیس بإمکانه أن یتعرف على کل من فی المسجد من المصلین، ولکن یکفی شعوره بأن جمیع من صلوا معه إخوة له فی الإیمان، وأن یشعر بأن هؤلاء لیسوا إلا نموذجاً واحداً لمجموعات کبیرة من إخوته فی الله فی سائر بقاع المعمورة .
وإن موضوع التذکیر بواجبات الأخوة الإسلامیة، والتکافل بین أفراد المجتمع من أهم الموضوعات التی یجب على خطیب الجمعة أن یهتم بها لأنها تُجَسِّمُ الحکمة التی من أجلها شُرِعَتِ صلاة الجمعة والجماعة.
ونظرًا لما الصلاة الجمعة من الأهمیة البالغة فی الإسلام فقد جاء التغلیظ الشدید فی وعید تارکها، کما أخرج الإمام مسلم من حدیث أبی هریرة وابن عمر -رضی الله عنهم- أنهما سمعا رسول الله -صلى الله علیه وسلم- یقول على أعواد منبره: (لَیَنْتَهِیَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَیَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَیَکُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِینَ).
وهل أعظم غفلة ممن حرم نفسه من استماع الموعظة الأسبوعیة الوحیدة التی فُرض علیه سماعها وأداء الصلاة جماعة مع العدد الکبیر من إخوانه المسلمین ؟!
وإننا حینما نرى المجتمعات البعیدة عن الإسلام نجد أنها تعیش فی تفکک وتباعد حتى بین أفراد الأسرة الواحدة ولا عیش فیها إلا للقوی، أما الضعیف فإنه یهلک بین تنافس الأقویاء لانعدام الرحمة والتکامل بین أفراد المجتمع، وما ذلک إلا لأنها لم توفق إلى هذه المبادئ السامیة التی وفق إلیها المسلمون، والتی توجد الإخاء والتکافل الاجتماعی.
نسأل الله أن یهدینا سبل السلام، وأن یوفق الجمیع لما فیه مصلحة الإسلام والمسلمین إنه جواد کریم.
وصلى الله على نبینا محمد، وآله وصحبه أجمعین،
والحمد لله رب العالمین.