قال تعالى: {أفمن یهدی إلى الحق أحقّ أن یتبع أم من لا یُهدی إلاّ أن یهدى فمالکم کیف تحکمون}. (یونس:35). وقال أمیر المؤمنین (ع): "أحق الناس بهذا الأمر أقواهم علیه وأعلمهم بأمر الله فیه". (نهج البلاغة، الخطبة 171).
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله وسلام على عباده الذین اصطفى محمد وآله الطاهرین.
وبعد... فإن مسألة "ولایة الفقیه" والتعریف بأبعادها وحدودها، أصبحت من أهم المسائل التی تدور علیها رحى العصر؛ إنها مسألة مصیریة للأمة المنتفضة بعد طول العهد، وإنها خطة قیادیة وضعها الإسلام منذ أن بزغت مطالعه فی ربوع الجزیرة، وإنها النقطة المرکزیة "حبل الله المتین" التی یجب الالتفاف حولها والتمسک بعروتها الوثیقة، إنها جامعة کلمة المسلمین ولامّة شعثهم، والوسیلة الکبرى لإعادة شاردتهم وإقامة أودهم والاتجاه بهم نحو السعادة فی الحیاة.
هذا ولاسیما بعد تلک الانتفاضة الکبرى التی قامت بها أمتنا المجیدة فی المنطقة، تحت قیادة إمامها الکبیر الخمینی العظیم (دام ظله) الذی برهن للملأ کفاءته وجدارته فی قیادة أمة بکاملها. وقد أعاد إلى الإسلام رواءه الأصیل، ومجده وکرامته التی کانت على عهده الأول صافیة ضافیة.
وهی مسألة خطیرة بحث عنها الفقهاء فی مختلف المجالات، وأخذوا فیها بالرد والنقاش الحر، لخصناها فی فصول الرسالة الحاضرة، ولعلها خدمة متواضعة یتلقاها الزملاء الأعزاء، بحسن النظر وغض البصر، إذ من کتب فقد استهدف، ومن ثم فمن الله المستعان وهو الموفق للصواب.
قم ـ محمد هادی معرفة
ربیع الأغر 1402
وظائف الفقیه ومراتب ولایته
ذکروا للفقیه الجامع للشرائط وظائف ثلاث(1):
1ـ الإفتاء: وهو بیان الحکم الشرعی المرتبط بوظیفة المکلفین، وفق استنباطه من أدلته المعهودة.
2ـ القضاء: وهو الحکم لفصل الخصومات وحل الاختلافات وما شاکلها من مصالح عامة.
3ـ الولایة: وهی تولیة شؤون الأمة فی جمیع جهاتها الإداریة والاجتماعیة والسیاسیة، الداخلیة والخارجیة، التی یجمعها قولهم: "إدارة البلاد وسیاسة العباد".
أما مسألة الإفتاء، فمتفق علیها بین الفقهاء، سوى لفیف من أهل الظاهر، لشبهات عرضت لهم، وکان منشؤها قلة الإمعان والتدبر فی نصوص الکتاب والسنة، وکانت مناقشاتهم فی الأغلب تعود لفظیة.
وأما القضاء فمتفق علیه أیضاً، سوى أن المخالف أنکر ثبوته بعنوان المنصب، فلم یجوّز له التصرف فی أموال القصر وتولیة الأوقاف بسمة ولایته على ذلک، بل بسبب کونه القدر المتیقن ممن یجب علیه القیام بأمرها.
ومن ثم فإن القیّم الذی نصبه والمتولی الذی عیّنه ینعزل بموت الفقیه، لأنها کانت وکالة ـ والوکیل ینعزل بموت الموکل ـ الأمر الذی لم یکن ینعزل لو کانت من باب الولایة.
وأما مسألة الولایة، فهی التی أصبحت مورد بحثنا فی هذه الرسالة، وکانت هی مورد اتفاق الفقهاء فیما سلف حتى عصر صاحب الجواهر حیث بدت بعده وساوس المتشککین، وراق لبعضهم إنکارها رأساً، إنکار أمر کان قد أحکمه أساطین المذهب، حسب تعبیره (قدس سره)(2).
وقد فرض المحقق النائینی (قدس سره) من الولایة ثلاث مراتب:
أولاها ـ وهی المرتبة العلیا ـ مختصة بالنبی والأئمة المعصومین (علیهم السلام)، وهی الولایة على الأموال والأنفس، التی جاءت الإشارة إلیها فی الآیة الکریمة: {النبی أولى بالمؤمنین من أنفسهم}(3).
وهذه المرتبة من الولایة غیر قابلة للتفویض والانتقال إلى غیر المعصوم.
وثانیتها: ولایة إدارة نظم البلاد وانتظام شؤون العباد، الخاصة بولاة الأمر، وهی قابلة للتفویض إلى من له أهلیة ذلک، إلاّ أنه ـ بحسب رأیه ـ لم یثبت تفویضها إلى الفقیه فی عصر الغیبة.
وثالثتها: ولایة ما یرجع إلى شؤون القضاء، فقال بثبوتها للفقیه فی عصر الغیبة.
وهذه قد أنکرها سیدنا الأستاذ الخوئی (دام ظله) أیضاً، فلم یقل بثبوت ولایة للفقیه إطلاقاً.
وسوف نتعرض لهذه الآراء تفصیلاً ونستوضح أدلتها نفیاً وإثباتاً بما یکشف لنا الطریق إلى اختیار الأرجح.
ولکن قبل الخوض فی صلب البحث، ینبغی تمهید مقدمات ربما تسهل علینا الوقوف على حقیقة الأمر فی المسألة، وبالله التوفیق.
المقدمة الأولى
الإسلام دین جامع وکافل لجمیع أبعاد الحیاة
لعله من الضروری ـ عند من درس الإسلام ولمس جوانبه التشریعیة الغنیة ـ أنه دین جامع وشامل لکل جوانب الحیاة: الإداریة والاجتماعیة والسیاسیة. برامجه العریقة تشمل شؤون الفرد والمجتمع من عبادات ومعاملات وانتظامات.
المعروف عن الدین الإسلامی ـ لدى المحققین ـ أنه لم یترک شیئاً یمس حیاة الإنسان فی حاضره ومستقبله إلاّ وتعرض له، وجعل له برنامج یسیر علیه الإنسان، إذا أراد الاستقامة فی الحیاة، حتى الأرش فی الخدش.
الإسلام دین الکمال ودین التمام ومن ثم فهو دین الخلود:
1ـ قال الإمام محمد بن الباقر (ع): "إن الله تبارک وتعالى لم یدع شیئاً تحتاج إلیه الأمة، إلاّ أنزله فی کتابه وبیّنه لرسوله (ص)، وجعل لکل شیء حدّاً وجعل علیه دلیلاً یدل علیه، وجعل على من تعدّى ذلک الحدّ حدّاً".
2ـ وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): "إن الله تبارک وتعالى أنزل فی القرآن تبیان کل شیء، حتى (والله) ما ترک الله شیئاً یحتاج إلیه العباد، حتى لا یستطیع عبد یقول: لو کان هذا أنزل فی القرآن(4) إلاّ وقد أنزل الله فیه".
3ـ وقال (ع): "ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلاّ وله حدّ کحدّ الدار؛ فما کان من الطریق فهو من الطریق، وما کان من الدار فهو من الدار، حتى أرش الخدش فما سواه، والجلدة ونصف الجلدة".
4ـ وقال: "ما من شیء إلاّ وفیه کتاب أو سنة".
5ـ وقال: "ما من أمر یختلف فیه اثنان إلاّ وله أصل فی کتاب الله عز وجل، ولکن لا تبلغه عقول الرجال"(5).
والروایات معتبرة الأسناد وفق ما أثبته الکلینی (قدس سره) فی الکافی الشریف، والرابعة صحیحة حسب مصطلحهم.
قوله ـ فی الروایة رقم 1 ـ "جعل لکل شیء حدّاً" أی برنامجاً ودستوراً.
وقوله "وجعل علیه دلیلاً" أی بیّنه واضحة حتى لا تبقى الأمة فی غموض أو شک من أمرها.
وقوله ـ فی الروایة رقم 2 ـ "ما ترک شیئاً یحتاج إلیه العباد" أصرح فی الشمول والإطلاق.
وقوله ـ فی الروایة رقم 3 ـ "حلالاً وحراماً..." أی ما من شیء یجابهه الإنسان فی حیاته وإلاّ وله حکم، حلالاً أو حراماً، وله برنامج و دستور سماوی جامع ومانع یشمل کل جوانب الأمر بدقة فائقة. وهذا یعنی التفصیل والتدقیق فی برامجه الأصلیة الشاملة لکل جوانب الحیاة.
وقوله ـ فی الروایة رقم 5 ـ "ولکن لا تبلغه عقول الرجال" لعله إشارة إلى مسألة: "عجز العقول عن إدراک حقائق التشریع"؛ فإن للتشریع أصولاً مثبتة فی الکتاب والسنة، تبتنى علیها فروع متصاعدة حسب حاجة الإنسان فی مزاولة حیاته فی مختلف الأبعاد. وتلک الأصول لابدّ من أخذها من شریعة السماء. أما العقل فهو أعجز عن درکها لولا التشریع الإلهی {إنا هدیناه السبیل إما شاکراً وإما کفوراً}(6).
{الحمد لله الذی هدانا لهذا وما کنا لنهتدی لولا أن هدانا الله}(7).
المقدمة الثانیة
الإسلام دین الخلود، ویشمل کل العصور
من الضروری أن دین الإسلام دین الخلود؛ الإسلام جاء ببرنامج الحیاة وجعله فی ذمة البقاء مع الأبدیة، الإسلام خاتمة الأدیان السماویة؛ فهو دین الکمال والبقاء، الصالح لإسعاد البشریة فی جمیع الأعصار والأدوار، مهما تطورت الحیاة وتنوعت وسائل المعیشة، وهذا هو مفهوم الخاتمیة والکمال؛ فلا شریعة بعد الإسلام، ولا قوانین أکمل من قوانین الإسلام أبدیاً.
{الیوم أکملت لکم دینکم وأتممت علیکم نعمتی ورضیت لکم الإسلام دیناً}(8).
{ومن یبتغ غیر الإسلام دیناً فلن یقبل منه وهو فی الآخرة من الخاسرین}(9).
فقد بطلت شریعة النسخ بکمال هذا الدین وتمام هذه النعمة الباقیة، ولم تقبل شریعة خارج شریعة الإسلام أبدیاً.
قال الإمام الصادق (ع): "حلال محمد حلال أبداً إلى یوم القیامة، وحرامه حرام أبداً إلى یوم القیامة؛ لا یکون غیره ولا یجیء غیره"(10).
{وتمّت کلمة ربک صدقاً وعدلاً لا مبدّل لکلماته}(11).
{لا تبدیل لکلمات الله ذلک هو الفوز العظیم}(12).
المقدمة الثالثة
الإسلام نظام ذو مسؤولیة قائمة فی کل زمان
الإسلام أتى ببرنامج الحیاة السعیدة جامعة کاملة وکافلة بإسعاد البشریة فی جمیع أبعاد حیاتها مادیة ومعنویة؛ فالإسلام نظام للحیاة السعیدة، لکنه نظام ذو مسؤولیة محدودة، قد تعیَّن فیه مسؤول تفسیره وبیانه، مسؤول بثّه وإعلامه، مسؤول تنفیذه وإجرائه، مسؤول حفظه وحراسته عن الضیاع والإهمال والدفاع عن تناوش الأعداء.
فالإسلام ذو نظام عام، ونظامه ذو مسؤولیة محدودة، مسؤولیة البیان والإعلام والتنفیذ والحراسة، إنها مسؤولیات قد عیّنها الإسلام وعیّن حدودها وأبعادها واتجاهاتها، فلم یترک نظامه سدى، ولا أطلق مسؤولیته هملاً، لأن المسؤولیة المطلقة هی بعینها الفوضویة وسیادة الهرج والمرج فی البلاد؛ وهو نقض للغرض ومضادة عارمة للنظم والانتظام.
لیس من المعقول أن یأتی الإسلام بنظام ولا یعیّن مسؤول بیانه وإجرائه؛ کما لیس من المعقول أن یترک المسؤولیة مطلقة، لتکون الأمة هی بذاتها تتبنى تفسیر بنود النظام، وتتعهد النشر والإعلام، وتتکفل التنفیذ والإجراء.
هذا غیر معقول، لأن ذلک هو النقطة الأولى لإثارة الفتنة بین الأمة وتفاقم الاختلاف؛ لأن کل أحد یجر النار إلى قرصه، فینفسح المجال لذوی الإطماع.
قال تعالى: {...ولا یزالون مختلفین * إلاّ من رحم ربک ولذلک خلقهم...}(13).
قال أمیر المؤمنین (ع): "فرض الله الإمامة نظاماً للأمة".
قال ابن أبی الحدید فی شرح هذا الکلام: "لأن الخلق لا یرتفع عنهم الهرج والعسف والظلم إلاّ بوازع قوی، ولیس یکفی فی ردعهم تقبیح القبیح ولا وعید الآخرة، بل لابدّ من سلطان قاهر ینظم مصالحهم ویردع ظالمهم و یأخذ على أیدی سفهائهم"(14).
وقال الإمام الرضا (ع): "فإن قال: لم جعل أولی الأمر وأمر بطاعتهم؟ قیل: لعلل کثیرة:
منها: أن الخلق لما وقفوا على حدّ محدود وأمروا أن لا یتعدّوا ذلک الحدّ، لما فیه من فسادهم، لم یکن یثبت ذلک ولا یقوم إلاّ بأن یجعل علیهم فیه أمیناً یمنعهم من التعدی والدخول فیما حظر علیهم؛ لأنه إن لم یکن ذلک کذلک لکان أحد لا یترک لذته ومنفعته لفساد غیره. فجعل علیهم قیّماً یمنعهم من الفساد ویقیم فیهم الحدود والأحکام"(15).
نعم کلکم راع وکلکم مسؤول عن رعیته، وهذا یعنی الإطلاق فی المسؤولیة، بل لکل أحد مسؤولیته فی إطارها الخاص، فابتداءً کل أحد هو مسؤول نفسه: {علیکم أنفسکم لا یضرّکم من ضلّ إذا اهتدیتم}(16).
وتتسع المسؤولیة فی الحیاة العائلیة {یا أیها الذین آمنوا قُوا أنفسکم وأهلیکم ناراً}(17).
وهکذا تتوزع المسؤولیة حسب تنوع المقامات الاجتماعیة من أدنى إلى أعلى، الأمر الذی یحقق النظام القائم على أساس العدل.
هذا هو مفهوم النظام الذی رسمه لنا الإسلام.
وعلیه فنتساءل: هل الإسلام الذی أتى ببرنامج الحیاة کاملة أبدیة، هل عیّن مسؤولین عن نظامه هذا العریض؟ أم ترک المسلمین لا مسؤول عنهم ولا عن النظام الذی یحکم فیهم؟!
لاشک أن الجواب مع الإثبات، إذ الإهمال یتنافى مع حکمة الباری عزّ اسمه.
ثم فنتساءل: هل کان ذلک مقصوراً على فترة من الزمن کعهد حضور الأئمة المعصومین (علیهم السلام)، أم یعم جمیع الأعصر والأدوار حتى عصر الغیبة والانتظار؟.
لاشک أن الجواب أیضاً مع الإثبات، لأن الدلیل العقلی لا یقبل الاختصاص؛ فالعقل الذی یحکم بلزوم وجود مسؤولین عن النظام فی العهد الأول، هو الذی یحکم بضرورة وجودهم فی سائر العصور.
قال الإمام الصادق (ع): "إن الأرض لا تخلو إلاّ وفیها إمام، کیما إن زاد المؤمنون شیئاً ردّهم وإن نقصوا شیئاً أتمّه لهم".
السند الصحیح. وقوله "ردّهم" دلیل على ضرورة بسط یده فی إدارة شؤون المسلمین.
وقال: "ما زالت الأرض إلاّ ولله فیها الحجة؛ یعرف الحلال والحرام ویدعو الناس إلى سبیل الله". وقوله "یدعو..." دلیل على قیامه بالدعوة، لا مجرد بیان الأحکام.
وقال: "إن الله لم یدع الأرض بغیر عالم، ولولا ذلک لم یعرف الحق من الباطل"(18).
وقال: "إن الله أجل وأعظم من أن یترک الأرض بغیر إمام عادل".
وعن أمیر المؤمنین (ع) قال: "اللهم إنک لا تخلی أرضک من حجة لک على خلقک"(19).
وقال النبی (ص): "یحمل هذا الدین فی کل قرن عدول ینفون عنه تأویل المبطلین وتحریف الغالین وانتحال الجاهلین، کما ینفی الکیر خبث الحدید"(20).
هذا الحدیث رواه الکشی بسنده المعتبر عن الإمام الصادق (ع) عن النبی (ص). وقوله "یحمل" دلیل على قیامه بأمر الدین، وضرب المناوئین ضرباً قاضیاً کتأثیر النار فی إزالة خبث الحدید.
وخلاصة هذه المقدمات، أن الإسلام هو برنامج الحیاة فی کافة الشؤون الفردیة والاجتماعیة من عبادات ومعاملات وانتظامات، وأنه دین الخلود والأبدیة لیس مقصوراً على فترة من الزمن، بل إن أنظمته مستمرة عبر القرون والأعصار، وإنه نظام ذو مسؤولیة قائمة، حفظاً على سلامته، ووقوفاً دون تحکّم الفوضى فی جامعة المسلمین.
المقدمة الرابعة
فی ولایة النبی والأئمة (علیهم السلام)
قال تعالى: {النبی أولى بالمؤمنین من أنفسهم}(21).
والمقصود من الأولویة بالأنفس: الأولى بالتصرف فی مطلق شؤون المؤمنین الخاصة والعامة. فتصمیمه (ص) فی أی شأن من شؤون المسلمین، أحق بالمراعاة من تصمیمهم أنفسهم.
نعم کان (ص) مأموراً بمشاورتهم فی الأمور، أما الاختیار النهائی والبت فی الأمر فقد کان إلیه (ص): {وشاورهم فی الأمر فإذا عزمت فتوکل على الله}(22)، ومن ثم قال تعالى: {وما کان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضی الله ورسوله أمراً أن یکون لهم الخیرة من أمرهم ومن یعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبیناً}(23). فلیس للمسلمین الخیرة من أمرهم بعد حکم الرسول (ص)، ومن ثم فإن فی مخالفته عصیاناً وضلالاً.
وهذه الولایة العامة أثبتها النبی (ص) لعلی (ع) یوم الغدیر، قال (ص) فی حشد المسلمین: "أیها الناس، من أولى بالمؤمنین من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن الله مولای. وأنا مولى المؤمنین، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن کنت مولاه فعلی مولاه". یقولها ثلاث مرات، ثم أمرهم بتبلیغ الشاهد للغائب.
ونزل جبرئیل بآیة الإکمال، فقال (ص): "الله أکبر على إکمال الدین وإتمام النعمة ورضا الربّ برسالتی(24) والولایة لعلی من بعدی"(25).
قوله (ص): "من أولى بالمؤمنین من أنفسهم" إشارة إلى الآیة الکریمة {النبی أولى بالمؤمنین من أنفسهم} تدلیلاً على المقصود من الولایة التی أعلن بها بشأن علی(ع). وفی مثل هذه الخطبة، ولا سیما فی ذلک الحشد الرهیب، شواهد کثیرة على إدارة ذلک المعنى الخاص: "الولایة العامة على الناس"، "الخلافة الکبرى".
وفی خطبة الصدیقة الکبرى فاطمة الزهراء (سلام الله علیها): "ففرض الله الإیمان تطهیراً من الشرک ـ إلى أن قالت ـ وطاعتنا نظاماً للملة وإمامتنا لمّاً من الفرقة"(26).
وهکذا قوله تعالى {أطیعوا الله وأطیعوا الرسول وأولی الأمر منکم}(27) فیه دلالة صریحة على هذه الولایة، إذ لا طاعة إذا لم تکن ولایة، لأنه لا تجوز إطاعة أحد إطلاقاً إلاّ إذا ثبتت ولایته بدلیل قاطع، الأمر الذی یختلف عن أخذ الفتوى من الفقیه، حیث لا أمر هناک ولا نهی، وإنما هو بیان حکم الله حسب استنباطه ونظره الخاص، وهذا على خلاف مسألة "الولایة" حیث الإطاعة المحضة، والتسلیم والانقیاد المطلق، فی کل ما یأمر أو ینهی، مطلقاً سواء فی الأحکام الشرعیة أو غیرها، مما یمس سیاسة العباد وإدارة البلاد على الإطلاق.
قال تعالى: {یا أیها الذین آمنوا صلّوا علیه وسلّموا تسلیماً}(28).
قال الشیخ: المستفاد من الأدلة الأربعة أن للإمام سلطنة مطلقة على الناس من قبل الله، وأن تصرفه نافذ ماض مطلقاً.
نعم قال بعضهم: لا ملازمة بین وجوب الطاعة وثبوت الولایة(29)، وهو کلام غریب عن طبیعة الفقه، ولعله صدر من غیر تأمل.
وذلک لأن الطاعة المفروضة على الناس تجاه أوامر النبی وأولی الأمر الشرعیین هی الطاعة المطلقة، سواء استصوبها رعاع الناس وعامة أفرادهم أم لم یستصوبوها، الأمر الذی یعنی أعرفیة ولاة الأمر بمصالح العامة من أنفسهم، فلولاة الأمر حق التصرف فی شؤون العامة إداریاً وسیاسیاً، ویکون تصرفهم هو النافذ إطلاقاً، ولیس لعامة الناس حق أی اعتراض، حسبما الآیة الشریفة: {وما کان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن یکون لهم الخیرة من أمرهم}، ومن ثم عقبها بقوله: {ومن یعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبیناً}.
وعلیه، فهذه الإطاعة المطلقة لا تعنی سوى أولویة ولی الأمر من الناس بأنفسهم، وأن أی تصمیم یتخذه ولی الأمر أولى من تصمیم سائر الناس فیما یرجع إلى صلاح أنفسهم، ومقدم ذلک علیه وأولى بالاتباع والعمل علیه.
ولیس ذلک سوى "الولایة العامة" الثابتة لولی الأمر ـ الإمام المعصوم أو الفقیه الجامع للشرائط ـ فهو أولى بالتصرف فی شؤونهم على الإطلاق.
المقدمة الخامسة
فی الفرق بین الإفتاء والحکم ومساسهما بمسألة الولایة
الإفتاء: بیان حکم شرعی من المجتهد وفق استنباطه الخاص، فالمفتی إنما یحکی حکم الله حسبما وصل إلیه تحقیقه عن منابع الحکم؛ فهو فی الحقیقة مخبر عن حکم الله فی الواقعة، ولیس منشئاً لحکم، وإنما هو حاکٍ وناقل ومخبر.
فإذا رجع إلیه العامی لیستعلم حکم الله فی المسألة فأفتاه المجتهد، کان ذلک عبارة عن بیان حکم الله حسب تحقیقه، لا أنه یرى ذلک حسب عقله وفکرته الخاصة، فلیس بیاناً لنظره، بل بیاناً لنظر الشارع وفق تحقیقه الخاص.
فمورد الإفتاء هو الأحکام الکلیة المترتبة على مواضیعها على نحو القضایا الحقیقیة، وإنما على المکلف نفسه تطبیقها على مواردها الجزئیة، حسب ابتلاءاته الخاصة، ولیس من وظیفة الفقیه تعیین الموضوع، ولا التدخل فی أمر التطبیق الخارجی، فإن ذلک من وظیفة العرف وتشخیص المکلف نفسه. ومن ثم قیل: تشخیص الموضوع لیس من وظیفة الفقیه من حیث کونه فقیهاً.
أما الحکم فی القضاء فهو على خلاف الإفتاء تماماً، لأن القضاء عبارة عن إنشاء الحکم فی الموارد الجزئیة، ویکون تشخیص الموضوع من وظیفة القاضی، بل من أهم وظائفه، حیث المفروض علیه تشخیص الموضوع أولاً، تشخیصاً کاملاً، ثم إنشاء الحکم علیه؛ وأن لإنشائه الخاص موضوعیة، فلا یجوز إجراء الحد أو تنفیذ أمر ما لم یحکم به القاضی عن إنشاء جدّی.
فالإفتاء والحکم على هذا یفترفان:
أولاً: فی أن الإفتاء أخبار لا إنشاء، فی حین أن الحکم فی القضاء إنشاء لا مجرد أخبار.
وثانیاً: أن الإفتاء یخص الموارد الکلیة، والحکم لخاص بالموارد الجزئیة.
وثالثاً: تشخیص الموضوع لیس من وظیفة الفقیه، فی حین أن ذلک من أهم وظائف القاضی.
أما مسألة "الولایة العامة" فهی من جهة تشبه مسألة القضاء، نظراً لاختصاصها بالمواضیع، وأن تشخیص الموضوع فیها فی مواردها هو وظیفة الولی الفقیه، لکن تختلف عنها من جهة ارتباطها بالقضایا العامة "المصالح العامة" التی هی فوق شأن القضاء، والتی تکون مسألة القضاء فرعاً علیها.
فمثل التصدی لشؤون القصّر والغیّب وتولیة الأوقاف وما شاکلها، فإلى إقامة الجمعة والجماعات وإعلام الجهاد والدفاع وعقد الصلح والهدنة وسد الثغور وتشکیل جهاز الحکم فی البلاد سیاسیاً ونظامیاً وإداریاً، وحتى فی مثل إصدار "الأحکام السلطانیة" فیما یکون فصل الخصومات فیه موقوفاً على تحکیم الأحکام الثانویة تمسکاً بحدیث "لا ضرر ولا ضرار" وأمثاله؛ کل ذلک یرجع إلى شؤون الولایة العامة، وهی فوق مسألة القضاء. لکن لا یحق لأحد أن یتصدى لشیء من الأمور المذکورة وما ماثلها من الشؤون العامة، إلاّ أن یکون فقیهاً جامعاً لشرائط الإفتاء، عارفاً بمواقع السیاسة والشؤون الأممیة والأحوال والأوضاع العامة، أو مأذوناً من قبله بإذن خاص أو عام؛ الأمر الذی یربط مسألة "الولایة العامة" بمسألة "الفقاهة" أولاً، ثم بعالم القضاء فی ممیزاته الخاصة؛ فهی منتشیة من مقام الفقاهة، و مسیطرة على شؤون القضاء فی آفاق وأبعاد أوسع منها. وقد ذکرنا فی مسألة "القضاء": أن تعیین القضاة فی الأطراف، إنما هو من شؤون ولایة الفقیه، إذا کانت للحکم الإسلامی تشکلات ونظم سائدة على البلاد.
المقدمة السادسة
فی تقسیم الولایة إلى تکوینیة وتشریعیة
تنقسم الولایة ـ حسب المصطلح ـ إلى تکوینیة وتشریعیة. وتعنی الأولى ولایة التصرف فی التکوین إبداعاً أو تبدیلاً من حقیقة إلى أخرى، أو من صورة إلى غیرها، بغیر أسباب طبیعیة متعارفة.
والتصرف فی التکوین والإبداع من شأنه تعالى "لا مؤثر فی الوجود إلاّ الله"، قال تعالى: {هل من خالق غیر الله}(30).
نعم قد یظهر على أیدی بعض أولیائه المقربین بعض التصرف فی التکوین، ویسمی بالإعجاز الخارق، کالذی ظهر على أیدی الأنبیاء دلیلاً على نبوتهم، وآیة على صلتهم بعالم الغیب.
وهل یمکن ظهوره على ید غیر الأنبیاء من عباد الله الصالحین؟
الجواب: نعم. وقضیة آصف بن برخیا حجة قاطعة على إمکان الوقوع، {قال الذی عنده علم من الکتاب أنا آتیک به قبل أن یرتد إلیک طرفک فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربّی}(31).
ویبدو من کثیر من روایاتنا المتظافرة المأثورة عن أهل بیت العصمة (علیهم السلام) أن هذا المقام کان ثابتاً للأئمة المعصومین، خلفاء الرسول (صلى الله علیه وآله أجمعین).
قال الإمام أبو جعفر الباقر(ع) فی قوله تعالى: {قل کفى بالله شهیداً بینی وبینکم ومن عنده علم الکتاب}: "هو علی بن أبی طالب(ع)"(32). وفی حدیث آخر قال: "علی عنده علم الکتاب"(33).
وفی حدیث عبد الرحمن بن کثیر الهاشمی، قال: قرأ أبو عبد الله الصادق(ع) {قال الذی عنده علم من الکتاب أنا آتیک به قبل أن یرتدّ إلیک طرفک}، ثم فرج أصابعه ووضعها على صدره فقال: "والله عندنا علم الکتاب کله"(34).
والأحادیث بهذا المعنى کثیرة جداً.
روى جابر عن أبی جعفر الباقر (ع) قال: "إن اسم الله الأعظم على ثلاث وسبعین حرفاً، وإنما عند آصف منها حرف واحد ـ إلى أن قال ـ ونحن عندنا من الاسم اثنان وسبعون حرفاً، وحرف استأثر الله به، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلی العظیم"(35).
بل یبدو من تعابیر وجمل الزیارة الجامعة الکبیرة، أن للأئمة المعصومین مقاماً شامخاً، ومنزلة رفیعة عند الله لا یماثلها أی منزلة أخرى، تقول: "بکم فتح الله وبکم یختم وبکم ینزل الغیث وبکم یسمک السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، وبکم ینفس الهم ویکشف الضر، وعندکم ما نزلت به الرسل، وهبطت به ملائکته ـ إلى أن تقول ـ وأشرقت الأرض بنورکم وفاز الفائزون بولایتکم".
فالجملتان الأخیرتان، تشیر الأولى منهما إلى مقام ولایتهم التکوینیة: "هم أواصر ثبات هذا الکون ومصادر ازدهار هذه الحیاة" {وأشرقت الأرض بنور ربها}(36)، والثانیة تشیر إلى ولایتهم التشریعیة: "بموالاتکم علّمنا الله معالم دیننا وأصلح ما کان فسد من دنیانا، وبموالاتکم تمّت الکلمة وعظمت النعمة وائتلفت الفرقة، وبموالاتکم تقبل الطاعة المفترضة".
وفی الزیارة الأولى من الزیارات السبع المطلقة لأبی عبد الله الحسین (ع) التی رواها ابن قولویه بإسناد صحیح عن الإمام الصادق (ع) ما هو أعظم: "وبکم یباعد الله الزمان الکلِب(37)، وبکم فتح الله وبکم یختم الله وبکم یمحو الله ما یشاء وبکم یثبت وبکم یفکّ الذل من رقابنا، وبکم یدرک الله ِترَة(38) کل مؤمن یطلب، وبکم تنبت الأرض أشجارها، وبکم تخرج الأرض أثمارها، وبکم تنزل السماء قطرها ورزقها، وبکم یکشف الله الکرب، وبکم ینزل الله الغیث، وبکم تسبّح الأرض التی تحمل أبدانکم، وتستقر جبالها على مراسیها. إرادة الرب فی مقادیر أموره تهبط إلیکم وتصدر من بیوتکم"(39).
والجملة الأخیرة هی التی تستلفت النظر وهی جدیرة بالعنایة والتدقیق. وهی إشارة إلى أنهم (ع) وسائط فیضه تعالى على الإطلاق(40).
أما الولایة التشریعیة، فعبارة عن وجوب طاعتهم، وامتثال أوامرهم، ومتابعتهم فی شؤون الحیاة الدینیة والإداریة والسیاسیة والاجتماعیة.
{قل إن کنتم تحبّون الله فاتبعونی}(41)، {لقد کان لکم فی رسول الله أسوة حسنة}(42)، {یا أیها الذین آمنوا أطیعوا الله وأطیعوا الرسول وأولی الأمر منکم}(43).
قال أبو جعفر(ع) "ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشیاء ورضا الرحمان تبارک وتعالى، الطاعة للإمام، بعد معرفته تعالى، ثم تلا: {من یطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناک علیهم حفیظاً}(44).
وقال أبو عبد الله (ع): "نحن قوم فرض الله طاعتنا وأنتم تأتمون بمن لا یعذر الناس بجهالته". وقال: "الناس عبید لنا فی الطاعة"(45).
هذه هی الولایة التشریعیة العامة الثابتة للإمام المعصوم، بنص القرآن الحکیم والسنة القطعیة، فهل هی أیضاً ثابتة للفقیه العادل فی عصر الغیبة، بنفس السعة والشمول الذی کان ثابتاً للنبی والإمام (ع)؟
الأمر الذی هو مدار بحثنا فی هذه الرسالة.
المقصد الأول
فی إثبات الولایة العامة للفقیه الجامع للشرائط
وفیه فصول: الفصل الأول
فی بیان الآراء فی المسألة
الآراء فی المسألة ثلاثة:
الأول: قول المشهور(46) بثبوت ولایة الفقیه ولایة عامة فی جمیع شؤون الأمة، تلک الولایة التی کانت للإمام المعصوم، وهی رئاسة الدنیا والدین، ومن ثم فله ما کان للإمام من إقامة الجمعة والجماعة مع بسط الید، والأمر بالجهاد والدفاع عن الإسلام، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وإجراء الحدود، والقضاء والإفتاء وعقد الصلح وقبول الهدنة، وتقسیم الغنائم، وأخذ الأخماس والزکوات، وتولیة أمر القصّر والغیّب والأوقاف العامة وتجهیز من لا ولیّ له ووراثة من لا وارث له، وأن حکمه نافذ وتولیته باقیة؛ کل ذلک من باب ولایته على هذه الأمور.
قال الشهید: "والحدود والتعزیرات إلى الإمام ونائبه ولو عموماً، فیجوز فی حال الغیبة للفقیه الموصوف بما یأتی ـ فی القضاء ـ إقامتها مع المکنة. ویجب على العامة تقویته ومنع التغلب علیه. ویجب علیه الإفتاء مع الأمن، وعلى العامة المصیر إلیه والترافع فی الأحکام"(47).
وقال الشهید الثانی: هذا مذهب الشیخین (المفید والطوسی)(48) وجماعة الأصحاب، وبه روایة(49) عن الصادق(ع) فی طریقها ضعف، ولکن روایة عمر بن حنظلة مؤیدة لذلک، فإن إقامة الحدود ضرب من الحکم وفیه مصلحة کلیة ولطف فی ترک المحارم وحسم لانتشار المفاسد وهو قوی(50).
وقال العلامة: وفی روایة حفص بن غیاث أنه سأل الصادق(ع) من یقیم الحدود، السلطان أو القاضی؟ فقال: "إقامة الحدود إلى من إلیه الحکم"(51).
وهل یجوز للفقهاء إقامة الحدود فی حال الغیبة؟ جزم به الشیخان عملاً بهذه الروایة، کما یأتی أن للفقهاء الحکم بین الناس فکان إلیهم إقامة الحدود، ولما فی تعطیل الحدود من الفساد. ثم قال: الحکم والفتیا بین الناس منوط بنظر الإمام (ع)، فلا یجوز لأحد التعرض له إلاّ بإذنه، وقد فوض الأئمة(ع) ذلک إلى فقهاء شیعتهم المأمونین المخلصین العارفین بالأحکام ومدارکها. ثم ذکر روایة ابن حنظلة وأبی خدیجة(52).
قال صاحب الجواهر: بل هو المشهور، بل لا أجد فیه خلافاً، إلاّ ما یحکی من ظاهر ابن زهرة وابن إدریس، ولم نتحققه، بل لعل المتحقق خلافه(53).
قال ابن زهرة فی الغنیة: من شرائط وجوب الجهاد أمر الإمام العادل أو من ینصبه الإمام... بلا خلاف أعلمه(54).
وقال ابن إدریس: الإجماع حاصل منعقد من أصحابنا ومن المسلمین جمیعاً أنه لا یجوز إقامة الحدود، ولا المخاطب بها إلاّ الأئمة والحکام القائمون بإذنهم فی ذلک(55). قال صاحب الجواهر: ویمکن اندراج الفقیه فی الحکام عنهم(ع)(56).
وعبارة سلار فی المراسم أصرح: قال فی باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر: فأما القتل والجراح فی الإنکار فإلى السلطان أو من یأمره السلطان، فإن تعذر الأمر لمانع، فقد فوضوا (ع) إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحکام بین الناس... وأمروا عامة الشیعة بمعاونة الفقهاء على ذلک ما استقاموا على الطریقة ولم یحیدوا(57).
قال صاحب الجواهر تعقیباً على ذلک: فمن الغریب بعد ذلک ظهور التوقف فیه من المصنف وبعض کتب الفاضل، لا سیما بعد وضوح دلیله الذی هو قول الصادق(ع) فی مقبول عمر بن حنظلة... ومقبول أبی خدیجة والتوقیع...
ثم أخذ فی الاستدلال بنصوص روایات کثیرة، وأخیراً قال: فمن الغریب وسوسة بعض الناس فی ذلک، بل کأنه ما ذاق من طعم الفقه شیئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم (ع) أمراً، وتأمل المراد من قولهم: "إنّی جعلته علیکم حاکماً وقاضیاً وحجةً وخلیفة" ونحو ذلک، مما یظهر منه إرادة نظم زمان الغیبة لشیعتهم فی کثیر من الأمور الراجعة إلیهم. وقد قال قبل ذلک: بل لولا عموم الولایة لبقی کثیر من الأمور المتعلقة بشیعتهم معطلة(58).
وأخیراً قال: "هذا حکم أساطین المذهب".(59) کلمة قاطعة، جدیرة بالتفخیم والإعظام.
وهذا الرأی هو الذی ارتآه سیّدنا الإستاد الإمام الخمینی (دام ظله)، وقام بإعلامه والتشیید من مبانیه فی قوة بیان وتمام برهان. وکل ما ذکرته فی هذا المجال هو رشفة من بحره الزاخر ونشفة من قطره الغزیر(60).
الثانی: رأی المحقق النائینی (قدس سره)؛ فقد أثبت للفقیه حق الإفتاء والقضاء وکل ما یکون راجعاً إلى شؤون القضاء، کأخذ المدّعى به من المحکوم علیه، وحبس الغریم المماطل، والتصرف فی بعض الأمور الحسبیة کحفظ مال الغائب والصغیر، ونحو ذلک، کالحکم بثبوت الهلال، والفصل فی الدیون والمواریث؛ کل ذلک لولايته على هذه الأمور.
هذه هی المرتبة النازلة من مراتب الولایة، المقصورة على شؤون القضاء فحسب، أما المرتبة العلیا منها وهی الولایة على الأنفس وفق نص الآیة الکریمة {النبی أولى بالمؤمنین من أنفسهم} الأحزاب:6، فهی خاصة بالمعصوم لا یتقمصها غیره إطلاقاً.
وبعدها مرتبة أخرى قابلة للتفویض؛ فقسم منها یرجع إلى الأمور السیاسیة التی ترجع إلى نظم البلاد وانتظام أمور العباد وسد الثغور، والجهاد ضد الأعداء والدفاع ونحو ذلک، مما یرجع إلى وظیفة الولاة والأمراء، وقسم یرجع إلى الإفتاء والقضاء. فقد کان هذان المنصبان فی عصر المعصوم لطائفتین: الولاة والقضاة. و ربما کانتا لشخص واحد إذا کانت له الأهلیة لکلتا الجهتین، فکانت له الوظیفتان إما أصالة کالنبی (ص)، أو إعطاء فی غیره.
قال: لا إشکال فی ثبوت منصب القضاء والإفتاء للفقیه فی عصر الغیبة، وهکذا ما یکون تابعاً لشؤون القضاء، بعنوان المنصب والولایة علیها، إنما الإشکال فی ثبوت الولایة العامة، وأظهر مصادیقها: سد الثغور ونظم البلاد والجهاد والدفاع، وکذا مثل إجراء الحدود وأخذ الزکوات والأخماس وإقامة الجمعة ونحوها.
ثم أخذ فی مناقشة أدلة المثبتین، وأخیراً أنکرها وقال: وکیف کان فإثبات الولایة العامة للفقیه، بحیث تتعین صلاة الجمعة بإقامته لها أو نصب إمام لها مشکل(61).
الثالث: رأی سیّدنا الأستاذ الخوئی (دام ظله) حیث أنکر مطلق الولایة للفقیه حتى ولایته فی شؤون القضاء، وقال بقصور الأدلة عن إثبات أیة ولایة للفقیه إطلاقاً.
قال: إن الولایة لم تثبت للفقیه فی عصر الغیبة بدلیل، وإنما هی مختصة بالنبی والأئمة المعصومین (علیهم السلام)، بل الثابت حسبما یستفاد من الروایات أمران: نفوذ قضائه، وحجّیة فتواه. ولیس له التصرف فی أموال القصّر أو غیر ذلک مما هو من شؤون الولایة، إلاّ فی الأمر الحسبی، فإن الفقیه له الولایة فی ذلک لا بالمعنى المدعى، بل معنى نفوذ تصرفاته بنفسه أو بوکیله وانعزال وکیله بموته، وذلک من باب الأخذ بالقدر المتقین، لعدم جواز التصرف فی مال أحد إلاّ بإذنه، کما أن الأصل عدم نفوذ تصرفانه.. إلاّ أنه لما کان من الأمور الحسبیة ولم یکن بدّ من وقوعها فی الخارج، کشف ذلک کشفاً قطعیاً عن رضى المالک الحقیقی وهو الله تعالى.
والقدر المتقین ممن رضی المالک الحقیقی بتصرفاته هو الفقیه الجامع للشرائط، فالثابت للفقیه جواز التصرف دون الولایة(62).
الفصل الثانی
فی طرق الاستدلال لإثبات ولایة الفقیه
الطرق المعروفة لإثبات هذه المسألة الأصولیة ـ لأنها امتداد لمسألة الخلافة الکبرى بعد رسول الله (ص) ـ أربعة:
1ـ الإجماع من فقهائنا المحققین القدامى والمتأخرین، حسبما عرفت آراءهم بالإجماع والاتفاق فی الفصل الأول.
2ـ الدلیل العقلانی وهو المعبر عنه أخیراً بالأخذ بالقدر المتیقن.
3ـ عموم الکتاب، فیما یرتبط بمسألة "أولی الأمر" على الإطلاق.
4ـ النصوص الواردة بشأن ولایة الفقیه إن عامة أو خاصة.
هذا.. وأما النافی لولایة الفقیه فإنه لا یملک مستنداً لاختیار طریق الإنکار، سوى مناقشات فنیة أوردها على أدلة المثبتین، إما تضعیفاً لسند، أو تشکیکاً فی دلالة، معتمداً على أصالة العدم، حیث الأصل الأوّلی هو عدم ولایة أحد على أحد وعدم وجوب إطاعة أحد لأحد، إلاّ ما ثبت بدلیل.
ونحن نذکر مناقشاته تباعاً عندما نستعرض أدلة المثبتین إن شاء الله:
1ـ الطریق الأول:
أجمع فقهاؤنا على ثبوت ولایة الفقیه فی جمیع ما یرتبط بشؤون الأمة، السیاسیة والإداریة، وفق ما کان للإمام المعصوم(ع).
وقد سبقت عبارة صاحب الجواهر "هذا حکم أساطین المذهب"، وقال قبل ذلک: "بل هو المشهور، بل لم أجد فیه خلافاً، إلاّ ما یحکى عن ظاهر ابن زهرة وابن إدریس ولم نتحققه". وقد أشبعنا الکلام فی ذلک فی الفصل الأول، فلا نعید(63).
2ـ الطریق الثانی: الأخذ بالقدر المتیقن:
وهو استدلال عقلانی تستنتجه مقدمات ضروریة معلومة من حال الشرع، ومعروفة عن مقام حکمته. وهو یقوم على مقدمات:
الأولى: الإسلام دین جامع وکافل لإسعاد الإنسان فی کافة شؤون حیاته الإداریة والاجتماعیة والسیاسیة "ما من شیء إلاّ وفیه کتاب أو سنة"(64).
وفی خطبته (ص): "ما من شیء یقرّبکم إلى الجنة ویباعدکم من النار إلاّ وقد أمرتکم به"(65). والأسانید صحیحة(66).
الثانیة: الإسلام دین الخلود والشمول، دین یبقى خالداً مع الأبدیة ویشمل جمیع الأزمان والأعصار "حلال محمد حلال إلى یوم القیامة وحرامه إلى یوم القیمة". والأدلة على خاتمیة دین الإسلام هی الکافلة لإثبات هذا المدّعى.
الثالثة: الإسلام نظام ذو مسؤولیة قائمة فی کل زمان، قال الإمام الصادق (ع) "ما زالت الأرض إلاّ ولله فیها الحجة؛ یعرف الحلال والحرام ویدعو الناس إلى سبیل الله". وقال: "إن الله لا یدع الأرض بغیر عالم، ولولا ذلک لم یعرف الحق من الباطل". وقال: "إن الأرض لا تخلو إلاّ وفیها أمام، کیما إن زاد المؤمنون شیئاً ردّهم وإن نقصوا شیئاً أتمّه لهم". وقال: "إن الله أجلّ وأعظم من أن یترک الأرض بغیر إمام عادل"(67).
وبعد.. فإذا کان الإسلام دین الشمول والخلود إلى نهایة العالم، وذا نظام جامع مسؤول، فهل من المعقول أن یترک مسؤولیته سدىً فی فترة غیر قصیرة المدى، وبلا تعیین من یقوم بالمسؤولیة الکبرى التی تستدعیها عظمة هذا الدین وسعته وشموله وخلوده وأبدیته؟!.
ومن ثم فإن دلیلنا على إثبات ولایة الفقیه فی عصر الغیبة، هو دلیلنا على مسألة الإمامة(68) والخلافة الکبرى بعد رسول الله (ص).
قال سیدنا الأستاذ الإمام الخمینی (دام ظله): "لا یعقل ترک ذلک من الحکیم الصانع، فما هو دلیل الإمامة بعینه دلیل على لزوم الحکومة بعد غیبة ولی الأمر (عجّل الله فرجه) ولا سیما مع طول الأمد"(69).
إذن فتعیین المسؤولیة أمر لابدّ منه من الحکیم الصانع، فهل هی للمؤمنین کافة؟ الأمر الذی یستدعی الفوضى، أم لخصوص عدولهم مطلقاً حتى مع فقد العلم والکفاءة؟ الأمر الذی یستبعده العقل. فلابدّ أنه "للعارف بأحکام الإسلام الورع الکفؤ" وهو المصطلح عنه بالفقیه العادل الکفوء.
ونوقش هذا الاستدلال بوجود احتمال رابع، وهو أن تکون المسؤولیة على عاتق الأکثریة مع اشتراط إشراف الفقیه على تصرفاتهم، لضمان انسجامها مع الشریعة الإسلامیة، أو تکون الولایة بید الخبراء الاختصاصیین فی مجالات السیاسة وإدارة المجتمع، على أن یراجعوا الفقهاء، بقدر ما یتصل بالفقه الإسلامی، وهو أمر غیر الولایة العامة للفقیه(70).
لکن المناقشة غیر واردة، إذ ذهب عن المناقش أن القول بولایة الفقیه لا یعنی الاستغناء عن الفئتین الأخریین: الأکثریة، لیکونوا عماده فی الحکم عند المشورة، والخبراء، لیکونوا سنده فی تمشیة الأمور.
ولعل المناقش حسب من ولایة الفقیه تصدیه شخصاً لجمیع شؤون الأمة جزئیها وکلّیّها، إداریها وسیاسیها، اجتماعیها واقتصادیها، لیکون الفقیه هو الحاکم وهو القاضی وهو المحتسب وهو المباشر لکافة شؤون الدولة، الأمر الذی لم یفعله رسول الله (ص) مباشرة، بل کان یستعین بذوی البصائر فی إدارة البلاد وتنظیم شؤون العباد. ومن ثم کان (ص) مأموراً بمشاورة ذوی الرأی والبصیرة فی الأمور {وشاورهم فی الأمر فإذا عزمت فتوکل على الله}(71).
نعم یکون العزم والتصمیم النهائی والأخذ بزمام جلّ الأمر، والتصدی لرأس الحکم، من وظیفة ولی المسلمین، حیث بیده الحزم والجزم فی الأمور، متوکلاً علیه تعالى، لا على غیره من المخلوقین إطلاقاً.
وسنبحث ـ فی فصل قادم ـ عن ضرورة الأخذ بالمشاورة و متابعة رأی الأکثریة فی إدارة شؤون الدولة وسیاسة البلاد، فیأتی دور ذوی الاختصاص للاستناد إلیهم لا التفویض إلیهم کما زعموه.
وعلیه فاحتمال استقلال أحد الفریقین المذکورین ـ فی المناقشة ـ بالحکم، إبعاد للإسلام عن مجال الحکم. وقید النظارة کلام ظاهری أو سفسطة فی الجدل، لا یلتزم به الحکام إذا انفصلوا عن زعماء الدین. ولنا التجربة عبر عشرات القرون، تأسست خلالها حکومات على أسس إسلامیة عریقة، لکنها سرعان ما تقوّضت دعائهما وتبدّلت إلى أحکام طواغیت استبدّوا بالأمر وأخذوا بالقرع على رؤوس المسلمین، بتلک الأیدی التی تقوّمت الحکومة بجهودها فی سبیل إقامتها! ولله عاقبة الأمور.
على أن مسألة النظارة إن کانت مع قید المسؤولیة، فهی الولایة بعینها، وإن کانت بلا تحمل مسؤولیة، فلا موقع لها ولا أثر یذکر.
3ـ الطریق الثالث: عموم القرآن الکریم:
قال تعالى: {یا أیها الذین آمنوا أطیعوا الله وأطیعوا الرسول وأولی الأمر منکم فإن تنازعتم فی شیء فردّوه إلى الله والرسول إن کنتم تؤمنون بالله والیوم الآخر ذلک خیر و أحسن تأویلاً * ألم ترَ إلى الذین یزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلیک وما أنزل من قبلک یریدون أن یتحاکموا إلى الطاغوت وقد أُمِروا أن یکفروا به ویرید الشیطان أن یضلهم ضلالاً بعیداً * وإذا قیل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأیت المنافقین یصدّون عنک صدوداً}(72).
فی هذه الآیة الکریمة دستور بلیغ بإطاعة الله وإطاعة الرسول وإطاعة أولی الأمر، وإن الله والرسول وأولی الأمر هم وحدهم مراجع الأمة فی جمیع الشؤون الإداریة والسیاسیة التی هی لإحلال النظام محل الفوضى والاختلاف، کما قال فی آیة أخرى:
{وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولی الأمر منهم لعلمه الذین یستنبطونه منهم ولولا فضل الله علیکم ورحمته لاتبعتم الشیطان إلاّ قلیلاً}(73).
إذن، فهل هذا الدستور خاص بعهد الحضور، وأن الأمة مرخصة فی الرجوع إلى الطواغیت والدخول فی ولایتهم الظالمة، عند فقد الولی؟! لاشک أن ذاک دستور لا یقبل تخصیصاً بعهد دون عهد أو بفترة دون أخرى، بعد أن کان معللاً بأن هناک ولایتین: ولایة الله، وولایة الشیطان؛ ولیس یرخص مؤمن أن یدع ولایة الله البیضاء ویرضخ تحت ولایة الطاغوت الظلماء {الله ولیّ الذین آمنوا یخرجهم من الظلمات إلى النور والذین کفروا أولیاؤهم الطاغوت یخرجونهم من النور إلى الظلمات}(74).
فهناک جبهتان متقابلتان: جبهة الحق، وجبهة الضلال؛ ولیس من شأن المؤمن العارف بالله أن یترک النور إلى الظلمات، الأمر الذی یحتم من استمرار الحکم بالرجوع إلى ولاة الأمر الشرعیین فی جمیع الشؤون التی ینبغی فیها الرجوع إلى ولاة الأمر، ولا یجوز لمسلم مهما تغیر الزمان واختلفت الأحوال أن یرجع إلى طاغوت أو یتخذه ولیّاً. کیف وقد أمروا أن یکفروا به؟!
وعلیه، فمن هم الولاة الشرعیون الذین یجب الرجوع إلیهم والدخول فی ولایتهم؟
والخلاصة: المعلوم من نصوص الکتاب العزیز، أن من وظیفة المؤمن الالتزام بولایة الله وأن لا یرضخ لطاغوت أبداً. وهذا حکم عام یشمل کل الأدوار والأوضاع ولا یختص بدور أو بوضع محدود.
وعلیه فلنتساءل: إذا کان الواجب هو الاستسلام لولاة الأمر، فهل المقصود مطلق الولاة حتى ولو کانوا من الطواغیت الذین أُمرنا أن نکفر بهم ولا نستسلم لولایتهم إطلاقاً، أم هم الولاة العدل الشرعیون؟
وإذا کان الثانی هو الصحیح، فمن هم الولاة الشرعیون؟
أفهل یمکن العثور علیهم فی غیر صنف الفقهاء الأکفاء العدول؟ لأنهم هم مثل الأنبیاء وورثة المعصومین وأعلم الناس بمواقفهم فی تسییر الأمة وتوجیهها إلى جادة الصواب وساحل النجاة.
قال تعالى: {أفمن یهدی إلى الحق أحقّ أن یتّبع أمن لا یُهدّی إلاّ أن یهدى فمالکم کیف تحکمون}(75).
قال أمیر المؤمنین (ع) "أحق الناس بهذا الأمر أقواهم علیه وأعلمهم بأمر الله فیه". وقال: "ولا یحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحق"(76).
وقال: "إن أولى الناس بالأنبیاء أعلمهم بما جاؤوا به"، ثم تلا {إن أولى الناس بإبراهیم لَلذین اتبعوه وهذا النبی والذین آمنوا والله ولیّ المؤمنین}(77).
4ـ الطریق الرابع: الاستدلال بالنصوص:
النصوص الواردة بشأن "ولایة الفقیه" کثیرة، منها عامة یستنبط منها ولایته فی عصر الغیبة، ومنها خاصة ناصّة على خصوص ولایته فی الغیبة الکبرى. ونحن نذکر منها الأعلى سنداً والأظهر دلالة:
الحدیث الأول:
روى الصدوق (رحمه الله) فی العیون بأسانید ثلاثة، وفی معانی الأخبار بسند رابع، وفی المجالس بسند خامس، و اعتمد علیها، فأرسلها فی الفقیه إرسال المسلمات، قال: وقال أمیر المؤمنین (علیه السلام): قال رسول الله(ص) "اللهم ارحم خلفائی. قیل: یا رسول الله ومن خلفاؤک؟ قال: الذین یأتون من بعدی یروون حدیثی وسنتی"(78).
یبدو من هذا الکلام الذهبی أنه (ص) کان بصدد التعریف بمن یخلفه فی الأمر من بعده على الإطلاق، تعریفاً عاماً صالحاً للاستناد إلیه فی جمیع العصور. ومن ثم کرّر قوله: "اللهم ارحم خلفائی" ثلاثاً استلفاتاً لتنبه أصحابه واهتماماً بالأمر، فعادوا یسألونه: ومن خلفاک؟ الأمر الذی کان (ص) قد أراده من البدء، فأدلى ببیانه الشافی المحدد لجوانب هذه الخلافة والسمات التی یعتبر وجودها فی شخص الخلیفة، فقال (ص): "یأتون من بعدى یروون حدیثی وسنتی".
روایة الحدیث والسنة هی بمعنى القدرة على نشر سنته وسیرته (ص) بین الأمة نشراً یتجلى فیه مثاله الکامل من أقواله وأفعاله أجمع، أی تتجلى فی شخصیة القائم بالدعوة شخصیة الرسول الأعظم (ص) فی جمیع أبعادها قولاً وعملاً، فیکون مثاله المتجسد فی توجیه الأمة إلى ساحل النجاة؛ إذ لیس المقصود من السنة (فی لفظ الحدیث الشریف) هی السنة المصطلحة الشاملة لأقواله (ص) أیضاً، بلا حاجة إلى ذکر "حدیثی" منضمّاً إلى "سنّتی".
ومن ثم لیس المقصود من "الروایة" فی قوله "یروون" هی الروایة المصطلحة، إنما المقصود من "السنة" هی سیرته الکریمة فی قیادته الحکیمة لهذه الأمة الکبیرة. فالمقصود من روایة حدیثه وسنته، هی کون شخصیة الخلیفة مرآة منعکساً فیها شخصیة الرسول الأعظم، فی جمیع أبعاد حیاته القیادیة الکبرى، التی تتمثل فی أقواله وأعماله، التی قام بها فی توجیه الأمة نحو سعادة الحیاة.
وعلیه فکل من صلح للقیام بهذه المهمة الکبرى وتمثلت فی شخصیته شخصیة الرسول الأکرم، فکان مثاله الکامل فی بیان أقواله والقیام بأعماله القیادیة، أی مرآة صافیة ینعکس منها مثال نبی الله العظیم سیرة وسنة، کان ذلک خلیفته فی إدارة شؤون هذه الأمة وتسییر أمورهم.
وقرینة أخرى فی الکلام: إضافة "سنتی" بما یفید الشمول والعموم، أی من یکون مرجعاً للناس فی معرفة طریقتی والاطلاع على أقوالی أجمعها، إذ لیس رواة الحدیث مراجع الأمة فی معرفة مطلق شؤونه (ص)، إنما المرجع فی معرفة شؤونه (ص) وأنحاء سنته وأقواله فی شتى شؤون الدین وإدارة أمور المسلمین هم الفقهاء العارفون بحقائق الإسلام، أصوله وفروعه، الصالحون لبیان حقیقة ما عمل به النبی وتحدث به، فیما یمس الشریعة المقدسة، بیاناً عملیاً متجلیة فیه سیرة النبی وکلامه المستند إلى الوحی.
إنما هذا شأن الفقهاء ولیس من شأن رواة الحدیث، الذین لا یهمّهم سوى مجرد الروایة فی بعض ما سمعوه من أقواله أو وعوه من أعماله، لا فی کلها جمیعاً على نحو الاستیعاب، الذی هو شأن الفقیه الجامع الکفی.
هذا.. وقد کان الأئمة المعصومون (علیهم السلام) فی عصر الحضور هم المثل الأعلى لشخصیة الرسول العظیمة، وکانوا هم مراجع الأمة فی معرفة شؤون النبوة والولایة لتوجیه الأمة نحو الخیر والصلاح.
وأما بعد وقوع الغیبة الکبرى، فالفقهاء الأمناء على الحلال والحرام الأکفاء، هم الذین یمثلون شخصیة النبی الکبرى فی جمیع أبعادها، سنةً وسیرةً، قولاً وعملاً، فهم ولاة الأمر بعد الأئمة المعصومین وهم خلفاؤه المفوض إلیهم إدارة شؤون الأمة وولایة أمورهم، بعموم هذا النص الضافی.
وهنا ـ أیضاً ـ نکتة دقیقة یجب التنبّه لها، وهی تمس جانب نطاق ولایة الفقیه سعة وشمولاً، یعرف ذلک من لحن الحدیث الشریف(79).
ذلک أن حدود "ولایة الفقیه" إنما تدور مدار نطاق مرجعیته للأمة وعلى أساس ما تمکن من دعم قواعد الإسلام وتحکیم سیادة الشریعة بین الأنام، فبقدر ما توسعت سیطرته الفکریة على الأمة الإسلامیة، بذلک المقدار شملت حکومته الشرعیة وتوسعت ولایته على الناس. إن فقیهاً استطاع السیطرة التوجیهیة على أمة بکاملها فهو ولیّهم الشرعی والحاکم علیهم والمتصرف فی شؤونهم، لا یزاحمه غیره ممن لم تکن له ید فی توجیه الأمة على الإطلاق. وإذا کانت سیطرته أوسع شمولاً أو أضیق دائرة، فإن ولایته الشرعیة تتقدر بقدرها سعة وضیقاً لا محالة.
الأمر الذی یستفاد من لحن کلامه(ص) "یروون حدیثی وسنتی"، فبقدر ما یروون، أی یروون وجه الإسلام للأمة، یکونون خلفاء الرسول، کما قال الصادق (ع) "اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر روایاتهم عنّا"(80).
واعترض على التمسک بالحدیث بأن خیر ما یمکن أن یقال فی تقریب دلالته هو التمسک بإطلاق "الخلافة" لإثباتها فی کل ما یحتمل خلافتهم عنه (ص). إلاّ أن الإطلاق الموجب للسریان والشمول لا یجرى فی المحمول، فمثلاً لو قیل: زید عالم، لم یدل ذلک بالإطلاق على کونه عالماً بکل شیء، بل مهمل من هذه الجهة، وإنما الثابت هو علمه فی الجملة. وهکذا الثابت بهذا الحدیث هی الخلافة فی التعلیم والإرشاد، فیکون الحدیث بصدد بیان عظمة الرواة والروایة والإرشاد(81).
لکن لا أساس لهذا الاعتراض، نظراً لعدم فرق بین الإطلاق فی الموضوع أم فی المحمول إذا توفرت شرائطه (مقدمات الحکمة)؛ فقولنا: أکرم العالم، کما یکون للعالم إطلاق ـ وهو موضوع ـ کذلک یکون للإکرام إطلاق ـ وهو محمول ـ فیشمل وجوب إکرامه بجمیع أنحاء الإکرام، تمسکاً بالإطلاق.
وأما التمثل بقوله "زید عالم" فلا یصلح شاهداً لمدّعاه، حیث الإهمال فی جانب المحمول فی هذا المثال، لأن المتکلم بمثل هذا الکلام إنما یکون بصدد إبداء کون زید عالماً ولیس بجاهل، لیرفع به عن مقام الجهال إلى مجال العلماء، ولیس بصدد بیان أنحاء معارفه، لیکون حذف المتعلق دلیلاً على إرادة العموم. وهذه قاعدة بیانیة یقتصر المتکلم على بیان مقصوده بمقدار فلا یزید شیئاً؛ فلو کان بصدد کون زید معطیاً، یجب أن لا یذکر المعطی ولا المعطى له ولا یؤخذ بإطلاق کلامه حینذاک، أما إذا کان بصدد بیان المعطی أو المعطى له، وجب ذکره فقط دون الآخر، إلاّ إذا کان غرضه بیان الجمیع فیذکر الجمیع.
وعلى أیة حال، فإن الدلالة التصدیقیة للکلام (التی هی مناط الأخذ بالإطلاق) تابعة للإرادة الجدیة من الکلام. وللکشف عن هذه الإرادة وسائل وأدوات معروفة.
ثم إن قرائن الأحوال والأوضاع المکتنفة بالکلام وکذلک حال المخاطبین، هی من خیر الأدلة على تعیین مراد المتکلم.
والمتکلم ـ هنا ـ وهو النبی الکریم، إنما تکلم بهذا الکلام عن مقام نبوته ورئاسته وقیادته. والمخاطبون هم أصحابه وأمته ومتابعوه، فهکذا متکلم إذا خاطب هکذا مخاطبین بمثل هکذا کلام، أفلا یفهم منه إرادة الخلافة فی جمیع شؤونه المرتبطة بمقام إمامته على الأمة؟ فأین الإهمال؟ واین مجال الأخذ بالقدر المتیقن؟
وقد ناقشت المعترض ـ شفاهاً ـ بمثل ما ذکرته هنا، وقلت له أفلسنا نأخذ بإطلاق الخلافة فی قوله (ص): "هذا علی خلیفتی" ونعتبره نصاً على مقام خلافته بعد رسول الله فی جمیع شؤون الإمامة؟ فلم یحر جواباً وأحال إلى مجال آخر.
واعتراض آخر ذکره البعض، قالوا بالفرق بین قوله: "هذا خلیفتی" وقوله: "اللهم ارحم خلفائی"، إذ لم یکن الثانی بصدد تعیین الخلیفة لأنه فی مقام الدعاء لا الإخبار. نعم یظهر منه کونهم خلفاءه فی الجملة.
مضافاً إلى أن عنوان الخلیفة من مقولة التشکیک، فکما یشمل اللفظ خلفاءه من جمیع الجهات کالأئمة (ع) کذلک یشمل خلفاءه فی بعض الجهات، لا سیما وقوله "یروون حدیثی وسنتی" قرینة على إرادة خلافته من هذه الجهة فقط.
قالوا: ولو شمل مطلق الراوی للحدیث والسنة لیکون الجمیع خلفاءه بقول مطلق وفی جمیع الجهات، لکان منافیاً لما دلّ على حصر خلفاءه(ص) فی اثنی عشر. وعلیه فالروایة مجملة لا تصلح للاستدلال بها(82).
وهذه المناقشة کسابقتها موهونة، إذ لا فرق بین بیان الحکم صریحاً أو بالکنایة والتعریض، إذا کان مفهوماً کالصریح، وهذه من عادة أمراء الکلام حیث یؤدون مقاصدهم فی لحن القول أکثر مما یؤدونها فی صریح الکلام. ومن ثم رغبوا أهل النباهة من أصحابهم لیعرفوا معاریض الکلام ویدققوا فی نکاتها. هذا ولا سیما التکرار فی الدعاء المزبور، خیر شاهد على إرادة هذه التنبیه البلیغ.
وأما کون عنوان "الخلیفة" من مقولة التشکیک، فإن مقام التکلم وشخصیة المتکلم وسمته الاجتماعیة هی التی تعین المرتبة المقصودة، وکذلک جماعة المخاطبین بذلک الکلام، فإن نوعیتهم غالباً تعین المراد من اللفظ.
مثلاً إذا کان صاحب البیت یرید السفر وقال لأهله: فلان خلیفتی علیکم، یعلم إرادة من ینوب عنه فی إدارة البیت. وهکذا إذا قال رئیس شرکة أو مصنع کل بحسب ما یقوم به من وظیفة خاصة وفی محیطه الخاص.
وعلیه فإذا کان المتکلم بهذا الکلام رئیس دولة، وکان المخاطبون هم الرعایا، فإن مقتضى ظاهر هذا الکلام هو إرادة الخلافة فی جمیع ما یکون مرتبطاً بشؤون ولایته وزعامته علیهم.
وأما مسألة حصر خلفاءه (ص) فی اثنی عشر، فهو من باب التنصیص الخاص على الأولى والأحق بهذا المقام، الأمر الذی لا یتنافى مع عموم استحقاق الخلافة لمن استجمع الشرائط وصدق علیه العنوان المذکور فی ظرف فقد المنصوص علیه بالمخصوص.
وهذا نظیر ما ورد "یصلی على المیّت أولاهم بمیراثه" مع قولهم یصلی علیه ولده الأکبر، إذ لا تنافی بین الکلامین، نظراً لأن العرف یفهم أولویة الولد الأکبر مع وجوده، أما مع فقده فسائر الورثة ممن کان أقرب إلى المیت أولى من غیرهم بالصلاة علیه.
والخلاصة:
أن بیان حکم عام ثم ورود نص خاص، إنما یعنى الأهمیة والأولویة، مما لا یتنافى وثبوت الحکم العام.
الحدیث الثانی:
روى ثقة الإسلام الکلینی بإسناد صحیح عن علی بن أبی حمزة البطائنی ـ وهو ثقة عندنا لروایة الإجلاء وأصحاب الإجماع عنه، ولا سیما مثل صفوان وابن أبی عمیر، فقد أکثر الأخیر الروایة عنه. وقال الشیخ فی العدة: عملت الطائفة بأخباره. وفی ذلک کفایة ـ قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (ع) یقول: "إذا مات المؤمن بکت علیه ملائکة السماء ـ إلى أن قال ـ لأن المؤمنین الفقهاء حصون الإسلام کحصن سور المدینة لها". وفی روایة أخرى: "إذا مات المؤمن الفقیه..."(83).
فقد شبّه (ع) مقام الفقهاء فی الإسلام بالحصون الحصینة الصامدة فی وجه هجمات الأعداء، فهم دعاة الدین وحفظته والمدافعون عنه فإذا کنا نعرف من الدین سیطرة سیاسیة وإداریة واجتماعیة تشریعاً وتنفیذاً، فالمدافع عنه، هو المسؤول الأول لبسط الدین وتحکیم قواعده، ومن ثم تشمل سیادته کافة أبعاد حیاة المسلمین. وهل هذا إلاّ معنى "الولایة العامة" الثابتة للفقهاء الأکفاء؟!
وهذا هو معنى ما ورد: "مجاری الأمور والأحکام على أیدی العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه"(84).
وروى الآمدی فی الغرر عن أمیر المؤمنین (ع) قال: "العلماء حکام على الناس"(85).
والروایات یعضد بعضها بعضاً، ومن ثم کان الاطمئنان بالصدور إجمالیاً قطعیاً.
ولعل معترضاً یقول: هب أن الفقهاء مسؤولون عن الدین، ولکن هذا لا یعنی مسؤولیتهم عن المؤمنین؛ فالمسؤولیة عن الإسلام شیء، والمسؤولیة عن المسلمین شیء آخر!
لکن لا موضع لهذا الاعتراض بعد کون المقصود من حراسة الإسلام هی حراسة کیانه فی وجود المسلمین، لا حراسة ثبته طیّ الکتب والسطور وفی مخازن المکتبات، إذ الإسلام یزول بزواله عن النفوس المؤمنة إذا سیطر علیهم العدو ـ لا سمح الله ـ ولم یکن من یقوم بشؤونهم ویدافع عن کیانهم ویقف سداً منیعاً فی وجه العدو الغادر الذی یرید استعمار المسلمین فکریاً ثم سیاسیاً وعسکریاً فی نهایة الأمر.
وهذا بعینه نظیر قولنا: الأئمة (ع) بعد النبی (ص) حفظة الدین ودعاة الإسلام، الأمر الذی لا یعنی سوى المسؤولیة الکبرى والولایة العامة، کما کانت للرسول الأعظم (ص).
الحدیث الثالث:
قال الإمام أمیر المؤمنین (ع) فی خطبة یصف فیها موقفه من الخلافة: "أیها الناس، إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم علیه وأعلمهم بأمر الله فیه"(86).
ومقصوده (ع) من "هذا الأمر" هی مسؤولیة الأمة، فهی حق لأقوى الناس بالقیام به و الأعلم بحکم الله فی تحمل هذه المسؤولیة. وهذا هو المعنى بقولنا: الفقهاء الأکفاء.
وهکذا جاء فی کلامه الآخر(ع): "إن أولى الناس بالأنبیاء أعلمهم بما جاؤوا به"(87). یعنى أحقهم بمیراث الأنبیاء؛ ولیس میراثهم سوى مسؤولیتهم فی التشریع والتنفیذ لحکم الله على الخلائق، وهی معنى الولایة المطلقة لا شیء سواها؛ فالعلماء هم ورثة الأنبیاء (کما فی الحدیث)(88) فی أظهر شؤونهم الرسالیة.
وقد عبّر الإمام أمیر المؤمنین(ع) عن زعامة المسلمین التی هی حقه الشرعی بعد رسول الله (ص) بالتراث، قال: "فصبرت وفی العین قذى وفی الحلق شجى، أرى تراثی نهباً"(89).
وقال فی خطبة أخرى: "ولا یقاس بآل محمد (ص) من هذه الأمة أحد، ولا یسوّى بهم من جرت نعمتهم علیه أبداً؛ هم أساس الدین وعماد الیقین، إلیهم یفیء الغالی وبهم یلحق التالی، ولهم خصائص حق الولایة، وفیهم الوصیة والوراثة؛ الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقلة"(90).
الحدیث الرابع:
قول أمیر المؤمنین (ع) أیضاً فی خطبته المعروفة بالشقشقیة: "أما والذی فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقیام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا یقارّوا على کظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقیت حبلها على غاربها..."(91).
الکظة: التخمة تعرض البطن على اثر الأکل على الشبع.
والسغب: شدة الجوع.
والمقصود استئثار الظالم بحق المظلوم، أی أخذ الله میثاق العلماء أن لا یصبروا على استئثار الأقویاء بحقوق الضعفاء، بل یقوموا فی وجههم ویأخذوا حق المظلوم من الظالم.
فعلى العلماء مسؤولیة بسط العدل فی جامعة المسلمین والأخذ بأعباء الأمر بکاهل الجد، مهما مکنتهم القدرة على ذلک. وما هی إلاّ إمامة المسلمین والولایة على شؤونهم الإداریة والسیاسیة والعسکریة، ومن ثم طبقها (ع) على الخلافة وزعامة الأمة، عند توفر شروطها المادیة والمعنویة.
الحدیث الخامس:
روى ثقة الإسلام الکلینی بإسناد موثق عن أبی عبد الله الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص): "الفقهاء أمناء الرسل ما لم یدخلوا فی الدنیا...."(92).
هذا الحدیث رواه الکلینی عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن الحسین بن یزید النوفلی عن إسماعیل بن أبی زیاد السکونی عن أبی عبد الله (ع).
والنوفلی کان من أعلام الشیعة، کوفی سکن الریّ ومات بها، وکان من شدة ولائه لآل البیت أن رماه القمّیون بالغلو، لکن لم یؤثر منه ما یدل على ذلک، الأمر الذی یکشف عن مبلغ استسلامه لأهل بیت العصمة وعدم محاباته فی إظهار الولاء فی مدیح شعره وقریض أدبه.
وله فی الفقه وغیره روایات کثیرة عمل بها الأصحاب، کما قد وقع فی إسناد کامل الزیارات الذی ضمن مؤلفه ابن قولویه وثاقة الرواة الذین یشکلون سلسلة أسانید هذا الکتاب. وقد اعتمده سیدنا الأستاذ الخوئی (دام ظله).
وأما إسماعیل بن مسلم (ابن أبی زیاد السکونی) فهو عامی ثقة اعتمده الأصحاب، وکان من أصحاب الصادق (ع) وروى عنه روایات کثیرة معمول بها فی الفقه. وقد روى عنه أصحاب الإجماع مثل عبد الله بن المغیرة وفضالة بن أیوب، کما قد وقع فی إسناد کامل الزیارات أیضاً. قال الشیخ فی العدة: "عملت الأصحاب بروایاته" دلیلاً على الثقة بالرجل. قال سیدنا الأستاذ الخوئی (دام ظله) فی معجم رجال الحدیث: السکونی ثقة وکذا النوفلی الراوی عنه أیضاً ثقة على الأظهر(93).
فالحدیث من حیث الإسناد معتبر بلاشک.
أما فقه الحدیث، فالمعنی بالأمناء هم المستودعون لأداء رسالة الله فی الأرض، بنفس المعنى الذی أطلق على الأنبیاء أیضاً.
قال علی (ع) فی وصف الأنبیاء:
"فاستودعهم فی أفضل مستودع ـ إلى أن قال ـ وانتخب منها أمناءه"(94).
وقال فی أولى خطبة من نهج البلاغة:
"واصطفى سبحانه من ولده (آدم) أنبیاء أخذ على الوحی میثاقهم وعلى تبلیغ الرسالة أمانتهم"(95).
فکما أن الأنبیاء هم مستودع أمانة الله فی الأرض، کذلک العلماء، قد حملوا أمانته تعالى التی هی خلافة الله فی الأرض.
وفی حدیث الأمام الرضا (ع)، رواه الصدوق بإسناد معتبر قال: "إن الخلق لما وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا یتعدوا ذلک الحد لما فیه من فسادهم، لم یکن یثبت ذلک ولا یقوم إلاّ بأن یجعل علیهم فیه أمیناً یمنعهم من التعدی والدخول فیما حظر علیهم ـ إلى أن قال ـ فجعل علیهم قیّماً یمنعهم من الفساد"(96).
فقد عبّر (ع) عن مقام النبوة بمستودع أمانة الله والقوامة الشرعیة على الخلق؛ فالنبی أمین الأمة والقیّم لهم فی تسییر حیاتهم نحو السعادة، فإذا کان الفقیه أیضاً أمیناً بهذا المعنى فهو ولیّ المسلمین والمسؤول عن إدارة شؤونهم وفق منهج الشریعة.
وفی حدیث أمیر المؤمنین (ع) مع شریح: "إن إمام المسلمین یؤتمن من أمورهم على ما هو أعظم"(97).
هذا.. وقد کرر لفظ أمین فی القرآن تعبیراً عن مقام النبوة والأمانة فی أداء رسالة الله فی الأرض:
{إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إنی لکم رسول أمین}(98).
{إذ قال لهم أخوهم هود إلا تتقون * إنی لکم رسول أمین}(99).
{إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إنی لکم رسول أمین}(100).
{إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إنی لکم رسول أمین}(101).
{إذ قال لهم أخوهم شعیب ألا تتقون * إنی لکم رسول أمین}(102).
{...وجاءهم رسول کریم * أن أدّوا إلىّ عباد الله إنی لکم رسول أمین}(103).
{أبلّغکم رسالات ربی وأنا لکم ناصح أمین}(104).
وعلیه فمسألة الأمانة هی من خصائص النبوات؛ فإذا کان الأنبیاء أمناء الله فی أداء رسالته، کان الفقهاء أمناء الرسل فی تبلیغ رسالتهم إلى الناس، فقد تحملوا من الوظائف ما تحمله الأنبیاء من غیر فرق، حسبما تؤدیه هذا النصوص، وهذا هو تحقیق مفهوم "الولایة" الثابتة للأنبیاء أصالة، ثم للفقهاء الأکفاء امتداداً وتبعاً.
الحدیث السادس:
مقبولة عمر بن حنظلة ـ على حد تعبیر الأصحاب ـ قال: "سألت أبا عبد الله (ع) عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث فتحاکما إلى السلطان وإلى القضاة، أیحلّ ذلک؟ قال: من تحاکم إلیهم فی حق أو باطل، فإنما تحاکم إلى الطاغوت ـ إلى أن قال ـ قلت: فکیف یصنعان: قال (ع): ینظران من کان منکم قد روى حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکماً، فإنی قد جعلته علیکم حاکماً؛ فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه فإنما استخف بحکم الله وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ على الله، وهو على حد الشرک بالله"(105).
وإنما عبّروا عنها بالمقبولة لتلقی الأصحاب لها بالقبول وعملوا علیها واستندوا إلیها فی مسألة القضاء والإفتاء، حتى إن الشهید الثانی فی کتاب الأمر بالمعروف من المسالک ذکر استناد الأصحاب فی مسألة جواز إجراء الحدود للفقیه إلى روایة حفص وضعفها، ثم أیّدها بروایة عمر بن حنظلة، وأخیراً قوّاها؛ الأمر الذی یدل على مبلغ الثقة بهذه الروایة بحیث تصلح لوحدها سنداً لفتوى المشهور.
نعم غمز سیّدنا الأستاذ الخوئی فی "عمر" نظراً لعدم توثیقه فی کتب التراجم بالخصوص، لکن مجرد ذلک لا یصلح دلیلاً لإسقاط الإسناد، على أن عمل الأصحاب بروایاته واعتناؤهم به، وکذا روایة أصحاب الإجماع الإجلاء عنه مثل زرارة وهو من الستة الأوائل، وعبد الله بن بکیر وهو من الستة الأواسط، وصفوان بن یحیى وهو من الستة الأواخر، و علی بن رئاب وهو الثقة الجلیل من علیة علماء الشیعة، ومنصور بن حازم وهو العین الصدوق من أجلة أصحابنا وفقهائهم، وأبو أیوب إبراهیم بن عثمان الخزاز الثقة الکبیر المنزلة، وعلی بن الحکم الثقة الجلیل القدر، وهشام بن سالم الثقة الثقة... کل ذلک لدلیل واضح على مکانة الرجل ووثاقته واعتماد الأصحاب علیه قدیماً وحدیثاً، حتى إن الشهید الثانی وثقه صریحاً کما فی جامع الرواة. ومع ذلک فلا موضع للغمز فی مثله إن لم یکن من الجفاء بشأن شخصیة عالیة من شخصیات أصحاب الأئمة (علیهم السلام).
وأما وجه الدلالة، فقد اعترف سیّدنا الأستاذ الخوئی (دام ظله) بتمامیة دلالتها لإثبات ولایة القضاء للفقیه العادل(106). نعم أنکر دلالتها لإثبات الولایة العامة(107).
لکن دلالتها ـ کما فهمها الأصحاب جمیعاً ـ واضحة، فإن قوله: "فإنی قد جعلته علیکم حاکماً" هو بمنزلة تعلیل الحکم وبیان کبرى کلیة مستند إلیها فی إجابة السائل، إذا کان یکفی فی الجواب إرجاع المتنازعین من الشیعة إلى فقهائهم. فذکر هذه الجملة زیادة على المقدار الکافی للجواب، دلیل على عنایة المعصوم (ع) بالخصوص لجهة تعمیم شأن الفقهاء فی المرجعیة الکبرى للشیعة، بما یشمل مورد السؤال وغیره، کأنه (ع) یرید إبداء أن مثل هذه المسائل تتبیّن طرق حلّها بحلّ کلّی أساسی، هو نصب القیّم والولیّ للشیعة بشکل عام، وهم الفقهاء من الشیعة الأکفاء المنصوبون من قبل الأئمة المعصومین (علیهم السلام)، مراجع وملاجئ، یتحملون مسؤولیة الأمة على کافة أنحائها المحتاج إلیها.
ثم بیّن (ع) أن أحکامهم نافذة وإطاعتهم واجبة على نمط إطاعة الإمام المفترض الطاعة، الأمر الذی یؤکد من تثبیت مقام ولایتهم و زعامتهم الکبرى على الأمة.
أما الخدشة فی الدلالة المذکورة بإرادة القضاء من الحکومة لا مطلق الزعامة والحکومة بین الأمة، أو کون الإطلاق مستفاداً من ناحیة المحمول، أو اختصاص الروایة بقاضی التحکیم(108)، کل ذلک لا موضع له أصلاً، إذ فی تعبیر الإمام (ع) بالحکم بدلاً من القضاء، مع تصریح السائل بالأخیر (القضاء)، دلالة واضحة على إرادة التعمیم حسبما بیّنا.
کما لا فرق فی الإطلاق بین کونه فی الموضوع أم فی المحمول حسبما تقدم، وأما قاضی التحکیم فلا أساس له على اختیارنا حسبما شرحناه فی مسألة القضاء(109).
الحدیث السابع:
روى الصدوق بإسناد صحیح عن أبی خدیجة سالم بن مکرم عن الإمام الصادق (ع) قال: "إیّاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلى أهل الجور، ولکن انظروا إلى رجل منکم یعلم شیئاً من قضائنا، فاجعلوه بینکم قاضیاً، فإنی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه"(110). وهکذا رواه الکلینی(111)، وفی نسخة صاحب الوسائل "یعلم شیئاً من قضایانا"(112).
وروى الشیخ أیضاً عن أبی خدیجة، قال: "بعثنی أبو عبد الله (ع) إلى أصحابنا، فقال: قل لهم: إیّاکم إذا وقعت بینکم خصومة أو تدارى بینکم فی شیء من الأخذ والعطاء أن تتحاکموا إلى أحد من هؤلاء الفساق؛ اجعلوا بینکم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا فإنی قد جعلته قاضیاً، وإیّاکم أن یخاصم بعضکم بعضاً إلى السلطان الجائر"(113).
أما الدلالة فلأن المستفاد من الحدیث إعطاء ولایة القضاء للفقیه من قبل المعصوم (ع)؛ فللفقیه ولایة الحکم فی کل ما ینبغی الرجوع فیه إلى ذوی الصلاح من مراجع الأمة الصالحین، وکان الناس (المسلمون عامة) یراجعون فیها إلى ولاة الجور مطلقاً فی کل شأن من الشؤون؛ فإنه (ع) منع الشیعة منعاً باتاً من الرجوع إلى ولاة الجور إطلاقاً، ثم جعل لهم مرجعاً صالحاً یرجعون إلیه ویکفیهم مؤونة الرجوع إلى سائر الحکام والسلاطین.
فالفقهاء العدول الأکفاء ـ وفق هذا النص ـ هم مراجع الأمة فی جمیع الشؤون التی کان یرجع فیها إلى القضاة والحکام والولاة بصورة عامة.
وهذا معنى کفایة مؤونتهم بوجود الفقهاء، فلا حاجة إلى الرجوع إلى غیرهم إطلاقاً، إذ لو کانوا مراجع فی القضاء فقط، لکانت الحاجة إلى سائر الولاة باقیة، مع تصریح النص بکفایتهم عن الرجوع إلى السلاطین بالإضافة إلى الحکام والقضاة جمیعاً.
ومن ثم، فالصحیحة صریحة فی کون الفقهاء العدول مراجع الأمة فی جمیع الشؤون، الإداریة والسیاسیة والاجتماعیة بصورة عامة، ولا یجوز للأمة أن ترجع إلى غیرهم مع وجودهم وإمکان تصرفهم، فلا یزال الفقهاء هم حجج الله على الخلق منذ وقوع الغیبة الکبرى.
فالمستفاد من هذا الحدیث الشریف أمور ثلاثة:
الأول: اعتبار الاجتهاد فی مرجع الأمة (الفقیه الجامع للشرائط).
الثانی: ثبوت ولایة القضاء لهذا الفقیه باعتبار کونه منصباً.
الثالث: ثبوت الولایة العامة له باعتبار کونها خلفاً عن الإمامة.
أما الجهة الأولى:
فلأن ظاهر قوله (ع) "یعلم شیئاً من قضائنا، أو قضایانا" هو العلم الحاصل بالنظر والاجتهاد المعبّر عنه بالاستنباط. وهکذا قوله: "قد عرف حلالنا وحرامنا"، أی معرفة حاصلة من استنباطه الخاص، بقدرته على رد الفروع إلى الأصول، کما قال الصادق(ع): "إنما علینا أن نلقی إلیکم الأصول وعلیکم أن تفرّعوا"(114). وقال الرضا (ع): "علینا إلقاء الأصول وعلیکم التفریع"(115). والأسانید صحیحة.
والتنوین فی "یعلم شیئاً" للتفخیم أی کمیة معتنى بها، فهو دلیل على الاجتهاد المطلق لیؤهله للقیام بالقضاء بین الناس، وهکذا القیام بمرجعیة الأمة لحل مشاکلهم على الإطلاق، وذلک لأن الاجتهاد ـ على ما فسّرناه فی مباحث القضاء ـ هو الاستنباط الفعلی، لا مجرد ملکة الاستنباط؛ لأن القدرة على الشیء غیر حصوله، مع العلم أن الشرط هو فعلیة الاجتهاد، حسب قوله (ع) "نظر" "عرف" "علم".
ومن ثم، فالاجتهاد المطلق، بمعنى حصول الاستنباط فعلاً فی جمیع الفروع على نحو الاستغراق الحقیقی، شیء غیر ممکن عادة؛ وإنما الممکن عادة، هو حصوله فی معظم الأحکام وأمهات المسائل والفروع، الأمر الذی یعنیه قوله "یعلم شیئاً... الخ".
والمناقشة فی ذلک بأن علوم الأئمة(ع) وإن لم تکن قابلة للإحاطة بها، إلاّ أن قضایاهم وأحکامهم فی موارد الخصومات قابلة للإحاطة بها ولا سیما لمن کان فی عهدهم...(116) لا موضع لها، لأن الخصومات ـ وهی متنوعة بحسب مواد الاختلاف ـ لیس لها موارد خاصة محصورة فی إطار محدود، لیمکن الحصول علیها بسهولة، بل مواردها منتشرة انتشار مواد الاختلاف فی مطلق أبواب المعاملات، بل ومعظم أبواب العبادات، فضلاً عن أحکام الانتظامات وما شاکلها، بحیث کانت الإحاطة على بمواردها تستدعی الإحاطة الکاملة بمعظم أبواب الفقه من معاملات وعبادات وانتظامات کما لا یخفى.
وأما الجهة الثانیة
وهی (ولایة القضاء) بسمة کونها منصباً شرعیاً، فهی المستفاد من ظاهر قوله (ع) فی صحیحة أبی خدیجة: "فإنی جعلته علیکم قاضیاً". وقوله فی مقبولة عمر بن حنظلة: "فإنی قد جعلته علیکم حاکماً". لأنه نصب عام صدر من المعصوم (علیه السلام) لکل فقیه جامع للشرائط.
ولأن القضاء لو کان مثل الإفتاء فی عدم کونه منصباً رسمیاً فی الشرع، لما کان بحاجة إلى الإذن أو النصب من قبل الإمام المعصوم، إذ لم یقل أحد باحتیاج الإفتاء إلى الإذن من ولیّ المسلمین، بل التقلید سیرة عقلائیة فی رجوع الجاهل فی کل فن إلى العالم به، وقد قرّره الإسلام کسائر عادات العقلاء غیر المردوعة شرعاً.
أما القضاء، فالإجماع منعقد إلى احتیاجه إلى إذن رسمی، إن عاماً أو خاصاً، الأمر الذی یجعله منصباً لا محالة.
هذا وقد کان قضاة ذلک العهد یتصدون منصب القضاء بعنوان کونه ولایة، وکانت تخوّلهم حق نصب القیّم على القصّر والغیّب بعنوان الولایة على ذلک، دون مجرد الوکالة أو بعنوان (القدر المتیقّن) الذی قاله سیّدنا الأستاد الخوئی (دام ظله).
ویدل على ذلک ما فی صحیحة ابن بزیع، قال: مات رجل من أصحابنا ولم یوص، فرفع أمره قاضی الکوفة، فصیّر عبد الحمید القیّم بماله، وکان الرجل خلف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواری، فباع عبد الحمید المتاع، فلما أراد بیع الجواری ضعف قلبه عن بیعهن، إذ لم یکن المیت صیّر إلیه وصیته، وکان قیامه فیها بأمر القاضی، قال: فذکرت ذلک لأبی جعفر (ع) وقلت له: فما ترى فی ذلک؟ فقال: "إذا کان القیّم به مثلک أو مثل عبد الحمید فلا بأس"(117).
فقد کان القضاة ینصبون القیّم بعنوان ولایتهم على النصب، فکان ذلک شیئاً معهوداً من شؤون القضاء. وعلیه فإذا منح الإمام (ع) حق القضاء لفقهاء الشیعة، فقد خوّل إلیهم جمیع ما کان یرجع فیه إلى القضاة فی ذلک العهد. ومعنى ذلک هو إعطاء حق ولایة القضاء، نظیر ما کان لسائر القضاة.
وناقش فی ذلک سیّدنا الأستاذ الخوئی (دام ظله) بأن الثابت للفقیه وفق هذه الصحیحة هو منصب القضاء، وهو شیء آخر غیر أمر الولایة، لأنها خارجة عن مفهوم القضاء؛ فقد دلّتنا الصحیحة على أن الشارع نصب الفقیه قاضیاً نافذاً حکمه فی المرافعات وفصل الخصومات، ولا دلالة لها بوجه على أن له ولایة على نصب القیّم والحکم بثبوت الهلال ونحوه.
قال: وقد کان الخلفاء ذلک العهد یعیّنون للقضاء أشخاصاً، وللولایة أشخاصاً آخرین، کما کانت هی العادة قریب عصرنا أیام الحکومة العثمانیة(118).
لکن الاعتراف بکون القضاء منصباً رسمیاً فی الشریعة ومحتاجاً إلى إذن ونصب من قبل ولیّ المسلمین، إن عاماً أو خاصاً، وکذلک الاعتراف بنفوذ قضاء القاضی المنصوب، کل ذلک متنافٍ مع إنکار مقام ولایته، إذ لا معنى للولایة إلاّ کونها منصباً رسمیاً نافذاً قضاؤه نفوذاً موضوعیاً، بما لا یشبه مسألة الإفتاء فی شیء من خصوصیاته ومیزاته.
هذا مضافاً إلى معهودیة تصدّی النصب والحکم بثبوت الهلال بسمة کونه من شؤونه الولائیة النافذة، فی ذلک العهد وفی سائر العهود حتى فی عصرنا الحاضر، إذ کل ذلک معروف من شؤون القضاة الرسمیین فی جمیع الأقطار الإسلامیة، امتداداً للعادة المألوفة الجاریة منذ الصدر الأول.
وقد عرّف الشهید الأول (قدس سره) القضاء بأنه "ولایة شرعیة على الحکم فی المصالح العامة من قبل الإمام"(119)، وقد توافق علیه الأصحاب على ما أسلفنا فی مباحث القضاء، ودلّلنا علیه بکثیر من الآیات والروایات، منها قوله تعالى: {یا داود إنّا جعلناک خلیفة فی الأرض فاحکم بین الناس}(120).
وقوله: {إنا أنزلنا إلیک الکتاب بالحق لتحکم بین الناس}(121).
وقول علی (ع) "مجلس لا یجلسه إلاّ نبیّ أو وصیّ نبیّ"(122).
کل ذلک لدلیل على أن القضاء امتداد لولایة الله وخلافته فی الأرض، فهو جزء أصیل من النبوة والإمامة، ویکون المتصدی له متصدیاً لشؤون النبی والإمام، وشاغلاً لمنصب من مناصبهما؛ ومن ثم فهو بحاجة إلى إذن ونصب من قبلهما، ولا یجوز لأحد أن یتصدى لهذا المنصب الخطیر بلا إذن صریح، إن عاماً أو خاصاً، وإلاّ فهو غاصب وحاکم جائر.
أما الجهة الثالثة،
أی دلالة الصحیحة والمقبولة على ثبوت مطلق الولایة للفقیه المعبّر عنه بالولایة العامة، فقد ظهر وجهه فی مفتتح الکلام عن الدلالة، حیث المستفاد من الحدیث "فإنی قد جعلته قاضیاً أو حاکماً" هو إعطاء عموم الولایة للفقیه، فی جمیع الشؤون التی یمکن الرجوع فیها إلى القضاة والحکام والسلاطین، لأن الإمام (ع) منع الشیعة منعاً باتاً من الرجوع فی شؤونهم إلى ولاة الجور، ثم جعل لهم مرجعاً یکفیهم مؤونة الرجوع إلى تلکم الولاة، بأن جعل الفقهاء العدول من الشیعة مراجع لهم یرجعون إلیهم فی کافة شؤونهم، قضاءً وحکومة وسائر شؤون إدارة البلاد وسیاسة العباد.
وذلک کأن السائل سأل عن المخرج فیما یرجع فیه إلى شؤون القضاء فقط، لکن الإمام (ع) طرح المسألة على صعید أوسع، فتکلم عن مطلق الشؤون التی یرجع فیها إلى السلاطین وإلى الحکام وإلى القضاة. فکأنه (ع) حاول إلفات نظر الشیعة إلى ناحیة أهم، کانت تمس حیاتهم الاجتماعیة فی کافة شؤونها، وإن المسألة لا تنحصر فی حاجة القضاء فحسب، بل الأعم منها الشامل لمطلق إدارة المجتمع الشیعی فی کل عصر یسطو علیه سلطان الجور ولم یتمکنوا من اللجوء إلى أحضان عدل الإمام المعصوم.
هذا.. ومن ناحیة أخرى فإن هذه الجملة "فإنی قد جعلته قاضیاً أو حاکماً" ألقیت بصورة کبرى کلیة، دلیلاً على مستند الجواب، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد.
ومضافاً إلى أن القضاء والحکم مستعملان فی القرآن الکریم فی مطلق الحکم السیاسی وغیره:
قال تعالى: {وما کان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن یکون لهم الخیرة من أمرهم}(123).
ومورد الآیة الکریمة هو الشؤون السیاسیة المرتبطة بإدارة البلاد، وهی تعنی مسألة ولایته (ص) {النبیّ أولى بالمؤمنین من أنفسهم}(124).
وقال تعالى: {إنما کان قول المؤمنین إذا دُعوا إلى الله ورسوله لیحکم بینهم أن یقولوا سمعنا وأطعنا}(125).
فهذا القضاء والحکم الذی کان ثابتاً للنبی (ص) بنص الکتاب العزیز والسنة القطعیة، فإنه ثابت لولیّ المسلمین الشرعیّ، الإمام المعصوم فی عصر حضوره (ع)، ثم للفقیه العادل فی عصر الغیبة، بنص الصحیحة والمقبولة وغیرهما من نصوص معتبرة، وهی ولایة شرعیة ممتدة من ولایة النبی والإمام المعصوم (ع).
الحدیث الثامن:
التوقیع الشریف الذی تلقاه الأصحاب بالقبول وذاع صیته بین الخاصة والعامة بحیث أصبح رمزاً للشیعة وشعاراً یمتازون به.
روى شیخ الطائفة هذا التوقیع فی کتاب الغیبة بإسناد فیه إکبار وعظمة، قال: أخبرنی جماعة، عن جعفر بن محمد بن قولویه وأبی غالب الزراری وغیرهما، عن محمد بن یعقوب الکلینی، عن إسحاق ابن یعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمری (رحمه الله) أن یوصل لی کتاباً قد سألت فیه عن مسائل أشکلت علیّ، فورد التوقیع بخط مولانا صاحب الأمر (الدار) وفیه "... وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلى رواة حدیثنا، فإنهم حجّتی علیکم وأنا حجة الله علیکم ..."(126).
هذا التوقیع رواه الشیخ عن جماعة عن جماعة؛ والجماعة الأولى هم مشایخه أمثال الشیخ المفید وابن الولید القمی وابن بابویه الصدوق وغیرهم من أعلام الشیعة، والجماعة الثانیة هم ابن قولویه و أبو غالب الزراری وغیرهما، عن ثقة الإسلام وقطب مدار الشیعة محمد ابن یعقوب الکلینی عن إسحاق بن یعقوب...
فالسند إلى إسحاق هذا صحیح لا مغمز فیه، إنما الکلام فی إسحاق صاحب التوقیع.
قال المحقق الرجالی المعاصر الشیخ محمد تقی التستری: هو أخو الکلینی وشقیقه، وفی روایة الإکمال: "والسلام علیک یا إسحاق ابن یعقوب الکلینی"(127). وعلیه فهو إسحاق بن یعقوب بن إسحاق أخو الکلینی الأکبر، وقد تسمى باسم جده کما هی العادة فی تسمیة الولد الأکبر باسم الجد. وقد عد من أشیاخه(128) مما یؤکد کونه أخاه الأکبر.
وقال ابن حجر: إسحاق بن یعقوب من رجال الشیعة، وحکی أنه خرج له توقیع من الإمام صاحب الوقت، یخبر فیه عن أشیاء، ومن جملتها أن الخمس حلال للشیعة خاصة. روى عنه سعد بن عبد الله القمی(129).
وسعد بن عبد الله القمی شیخ هذه الطائفة وفقیهها ووجهها، جلیل القدر عظیم المنزلة کبیر الشأن، لا یروی إلاّ عن ثقة، معتمد علیه فی الحدیث. وهذا بنفسه دلیل على وثاقة الرجل. کما اعتمد علیه الکلینی والشیخ والصدوق(130) والطبرسى(131) وغیرهم، فنقلوا التوقیع عنه معتمدین علیه وأرسلوه إرسال المسلمات. وقد عرفت تلقی الأصحاب له بالقبول. ولعل فی ذلک کله کفایة.
وهذا التوقیع رواه الصدوق عن محمد بن محمد بن عصام الکلینی عن محمد بن یعقوب الکلینی. ومحمد بن محمد بن عصام هو طریقه إلى الکلینی وإلى جمیع کتاب الکافی، کما ذکره فی آخر الفقیه(132).
أما فقه الحدیث، فالمقصود من "رواة الحدیث" هم الوعاة ممن اهمّتهم الرعایة والدرایة، لا مجرد النقل والروایة، قال الصادق (ع): "رواة الکتاب کثیر ورعاته قلیل، فکم من مستنسخ للحدیث مستغش للکتاب؛ والعلماء تحزنهم الدرایة، والجهّال تحزنهم الروایة"(133).
وعلیه فالمقصود هم الفقهاء الذین یمکنهم فهم معاریض کلام المعصومین (علیهم السلام) والمستنبطون الذین یمکنهم ردّ الفروع إلى الأصول الملقاة من قبلهم (علیهم السلام)، وهذا واضح.
وهکذا المقصود من "الحوادث الواقعة" مطلق شؤون الأمة مما یمس حیاتهم الفردیة والاجتماعیة، الإداریة والسیاسیة، بمقتضى إفادة الجمع المحلى باللام للعموم الوضعی، إذ لا وجه لاختصاص هذا اللفظ بالمسائل الفرعیة المبتلى بها للأفراد خاصة، بل یشمل الحوادث الطارئة بالنسبة إلى الحیاة الاجتماعیة فی نظم الأمور وجمع الکلمة وحفظ کیان الإسلام والمسلمین.
وکذلک المقصود من "حجّتی علیکم" هو الولایة المطلقة الثابت نظیرها للإمام المعصوم (ع)، حیث أردفه بقوله "وأنا حجة الله علیکم". فبتلک السعة والشمول التی تفیدها اللفظة عندما ننسبها إلى الإمام، بنفس ذلک المعنى تفید اللفظة عندما ننسبها إلى الفقیه.
ففی هذه المقارنة عنایة خاصة لاحظها الإمام (ع) نظیر مقارنة النبی (ص) قوله "ألست أولى منکم بأنفسکم" بقوله "فمن کنت مولاه فعلی مولاه" دلیلاً کاشفاً عن مقصوده من اللفظة، کیلا یتشکک المتشککون فی المعنى المراد.
قال الشیخ: المراد بالحوادث ـ ظاهراً ـ مطلق الأمور التی لابدّ من الرجوع فیها عرفاً أو عقلاً أو شرعاً إلى الرئیس، وأما تخصیصها بخصوص المسائل الفرعیة فبعید من وجوه:
منها: أن الظاهر إیکال نفس الحادثة إلیه لیباشر أمرها مباشرة أو استنابة، لا الرجوع فی حکمها إلیه.
ومنها: التعلیل بکونهم حجتی علیکم وأنا حجة الله، فإنه إنما یناسب الأمور التی یکون المرجع فیها هو الرأی والنظر، فکان هذا هو منصب ولاة الإمام من قبله، لا أنه واجب على الفقیه من قبل الله بعد غیبة الإمام، وإلاّ کان المناسب أن یقول: إنهم حجج الله علیکم. کما وصفهم فی مقام آخر بأنهم أمناء الله على الحلال والحرام.
ومنها: أن وجوب الرجوع فی المسائل الشرعیة إلى الفقهاء کان من البدیهیات التی لا تخفى على مثل إسحاق بن یعقوب، حتى یکتبه ضمن مسائل أشکلت علیه.. بخلاف الرجوع فی المصالح العامة، فإنه یحتمل أن یکون الإمام (ع) قد عیّن شخصاً أو جهة للرجوع إلیه.
قال: والحاصل أن لفظ "الحوادث" لیس مختصاً بما اشتبه حکمه (الإفتاء) ولا بالمنازعات (القضاء) بل الأعم منهما(134).
الحدیث التاسع:
روى محمد بن عمر الکشی فی مقدمة رجاله بإسناد صحیح عن أبی عبد الله (ع) قال: قال رسول الله(ص): "یحمل هذا الدین فی کل قرن عدول ینفون عنه تأویل المبطلین وتحریف الغالین وانتحال الجاهلین کما ینفی الکیر خبث الحدید"(135).
قوله "یحمل هذا الدین" أی یتحمل مسؤولیته على أنحائها المعهودة تبلیغاً وبیاناً وتفسیراً وتعهداً فی مطلق الشؤون، مهما وافقت الأقدار وتمکنت الأحوال، إذ لیس معنى نفی التأویل والتحریف، نفیه جدلاً وفی مجالات البحث الکلامی، إنما المقصود هو مجال العمل والتطبیق، حیث المخالف یحاول تحویراً فی أسس الدین فی مرحلة تطبیقه العملی؛ لکن المسؤولین العدول یقفون فی وجهه وقفة حازم صمود، فیدافعون عن الإسلام وعن کیان المسلمین مدافعة الأحرار، ویردون کید الخائنین إلى نحورهم، وبذلک یشکلون سداً منیعاً وحصناً رفیعاً دون تطاول أیدی المعتدین. ومن ثم فإنهم حصون الإسلام کحصن سور المدینة، کما مرّ فی حدیث الإمام موسى بن جعفر (ع)(136). وهذا معنى ولایتهم على الإسلام والمسلمین، لأنها هی نفس تحمل المسؤولیة بیاناً وحفظاً ودفاعاً فی جمیع صوره وإشکاله.
الحدیث العاشر:
روى ثقة الإسلام الکلینی بإسناد صحیح عن الإمام الصادق (ع) قال: "إن الله لم یدع الأرض بغیر عالم، ولولا ذلک لم یعرف الحق من الباطل"(137). فلا یخلو عصر إلاّ وفیه عالم مسؤول عن بیان الحق ورد الباطل، مسؤولیة فی مجال العمل الفعال، لا مجرد الجدل والکلام. کما قال (ع) فی حدیث آخر: "إن الأرض لا تخلو إلاّ وفیها إمام، کیما إن زاد المؤمنون شیئاً ردّهم وإن نقصوا شیئاً أتمّه لهم".
وفی قوله "ردّهم" دلالة على ضرورة بسط یده فی القدرة على ضرب ید المتعدی. فالإمام القائم بین الخلق هو الذی یقوم بعملیة الرد والکمال؛ فإن تجاوز المسلمون ردّهم إلى الحق، وإن هم أبطأوا فی السیر على المنهاج القویم قادهم إلى الأمام وإلى الاستقامة والکمال.
وهذا هو معنى "سیاسة العباد وإدارة البلاد".
والأحادیث بهذا المضمون کثیرة