قال الله تعالى فی محکم کتابه العزیز: (إنما یعمر مساجد الله من آمن بالله والیوم الآخر...) وقال أیضاً: (وأقیموا وجوهکم عند کل مسجد وادعوه مخلصین له الدین)، وقال تعالى کذلک: (یا بنی آدم خذوا زینتکم عند کل مسجد). تشیر هذه الآیات الثلاث وما شابهها فی القرآن الکریم على أهمیة المسجد ودوره الإیمانی والروحی والتربوی والاجتماعی فی عقیدتنا الإسلامیة التی تعمل على بناء الشخصیة الإسلامیة المؤمنة والقادرة على خوض غمار الحیاة الدنیا من کل نواحیها وجوانبها الدینیة والدنیویة.
فالمسجد هو المکان الذی یرتاده المسلمون المؤمنون بربهم لیتقربوا إلیه بأصناف الطاعة من صلاة ودعاء وقراءة وتعلّم الأحکام والمفاهیم والاطلاع على المستجدات التی تحصل لیکون المؤمن على تواصل مع کل الأحداث ولیأخذ منها الموقف الذی یتناسب مع الشرع الإسلامی الحنیف.
وللمسجد قدسیة خاصة وتعظیم خاص له فی شرعنا الإسلامی، لأن المساجد هی بیوت الله فی الأرض، ومن دخل إلیها فهو زائر لله عزوجل، وعلى الزائر أن یحترم أصول الضیافة والزیارة، فلا یقوم بأی عمل یتنافى مع قداسة المکان ومکانته الروحیة والمعنویة مهما بدا ذلک الأمر حقیراً وتافهاً بنظر الکثیر من الناس العادیین.
من أجل ذلک فرض الله سبحانه وتعالى أحکاماً خاصة بالمسجد یجب على المسلم أن یراعیها ویحترمها ویلتزم بها، هذه الأحکام تسمّى بـ " فقه المسجد".
والمراد من " فقه المسجد" هو الحفاظ على قدسیة وطهارة ونزاهة هذا المکان عن أی أمر یشیر إلى الإستخفاف به أو الاستهانة بأمره، باعتبار أنه مکان اجتماع المسلمین فیه من أجل إقامة شعائر دینهم، ولهذا یجب أن یکون المسجد على أبهى حلة وأجمل منظر للداخل إلیه.
وینقسم فقه المسجد إلى الأحکام الأربعة " الواجب والحرام والمستحب والمکروه " وأما الأحکام الواجبة فهی:
- إزالة النجاسة عن المسجد، فلو فرضنا أن داخلاً إلى المسجد وجد فیه نجاسة فیجب علیه أن یعمل على إزالتها ومقدّماً ذلک على الصلاة مع سعة الوقت، وأما مع ضیق الوقت فیصلی ثم یزیل النجاسة أو یطلب من أحد غیره أن یعمل على إزالتها.
- یحب على الداخل إلى المسجد أن یکون متطهراً من الحدث الأکبر مثل الجنابة عند الرجل، أو الجنابة والحیض والنفاس عند المرأة، لأن المحدث بالأکبر لا یجوز له دخول المسجد والقیام فیه بأی نشاط عبادی، لأن الطهارة من الحدث الأکبر شرط صحة الأعمال العبادیة بنحو عام خصوصاً الدخول إلى المسجد والصلاة، وشرط کمال أعمال عبادیة أخرى کالدعاء وقراءة القرآن.
وأما الأحکام المحرمة فهی.
- تنجیس المسجد، سواء أرض المسجد أو سقفه أو سطحه وجدرانه أو الأدوات الموجودة فیه کالصوتیات والفرش.
- تزیین المساجد بالذهب إذا کان إسرافاً وزائداً عن مورد الضرورة، لأن الذهب فیه دلالة على التفاخر والتکبر، والله یرید للمساجد أن تکون بسیطة فی هندستها وبنائها لکی تتناسب مع أجواء العبادة والابتهال والدعاء وسائر الأعمال الدینیة.
- الأعمال المنافیة لحرمة المسجد مثل جعله مکاناً لممارسة الریاضة أو الغناء أو إقامة حفلات موسیقیة ولو کانت محللة، أو جعله مکاناً للبیع والتجارة وعقد الصفقات، لأن کل ذلک یتنافى مع وظیفة المسجد ویعطلها ویلغی الدور العبادی له.
- حرمة دخول الکفار إلى المساجد، حتى ولو کان ذلک من أجل التعرف إلیه ومعاینة الآثار التاریخیة أو المعماریة أو غیر ذلک، ولا فرق فی حرمة الدخول ما اعتبر هتکاً لحرمة المسجد وما لا یعتبر کذلک، فالدخول حرام مطلقاً، لأن المسجد هو مکان الموحدین الحقیقیین، وهذا غیر متحقق فی غیر المسلمین من عباد الله وخلقه.
- حرمة هدم المسجد أو تخریبه، ولو حصل ذلک، فیبقى عنوان المسجد به قائماً، ولا یجوز إقامة أی شیء آخر مکانه، بل یجب إعادة بناء المسجد فیما لو تم هدمه کلیاً، أو بناء الجزء الذی تم هدمه، نعم یجوز هدم المسجد إذا کانت هناک مصلحة کبرى للمسلمین متوقفة على هدمه لأنه عائق فی هذه الحالة، وهدمه لا یکون إلا بأمر الحاکم الشرعی المنوط به إعطاء الأذن.
- حرمة العمل خلاف عناوین الوقف مثل استعارة سجاد المسجد أو صوتیاته أو شیء من کتب القرآن والأدعیة وإخراجها من المسجد، فهذه الأعمال کلها غیر جائزة إذا کانت تلک الأمور موقوفة لخصوص المسجد کما هو المتعارف غالباً فی بلادنا الإسلامیة. وأما الأحکام المستحبة فهی:
- تنظیف المسجد کی یکون لائقاً وجمیلاً لکی یأنس المؤمن بوجوده فیه ویرتاح بالنظر إلیه.
- إعمار المساجد فهو أمر مستحب جداً، حتى ورد أنه من المستحب أن یجعل الإنسان فی بیته مکاناً خاصاً یجعله کمسجد له یصلی فیه.
- أن یکون المؤمن أول الداخلین إلیه وآخر الخارجین منه، لیکون لذلک دلالة على ارتباط المؤمن بربه من خلال مسارعته فی الذهاب إلى المسجد على قاعدة (واستبقوا الخیرات. ..).
- أن یکون عند دخوله إلى المسجد خاشعاً وخاضعاً وذلیلاً ومنکسراً للدلالة على أنه قادم إلى المسجد لیکون بین یدی الله سبحانه وتعالى لیأخذ منه العون والمدد والقوة لمواجهة الحیاة بکل ما فیها من مغریات ومفاتن وغیر ذلک مما یخرج الإنسان عن الصراط المستقیم.
- أن یدخل بالرجل الیمنى ویخرج بالرجل الیسرى، وهذا ما ورد فی الروایات والأحکام.
- إرتداء أجمل الثیاب وأنظفها والاهتمام بالمظهر العام مضافاً إلى وضع الطیب والعطر، وهنا نستغرب تصرف البعض من الناس الذین إذا أرادوا أن یزوروا شخصاً ذا مقام فإنهم یلبسون أفخر الثیاب الموجودة عندهم، بینما یتهاونون فی لباسهم عند الذهاب إلى المسجد، مع أن التزین بین یدی الله أهم وأعظم من التزین للناس مهما علت مقاماتهم.
- أن یصلی فی المسجد مع الجماعة إذا کان له إمام راتب یصلی الصلوات الخمس لأن أجر الجماعة لایحصیه إلا الله إذا بلغ عدد أفرادها العشرة وما فوق، وقد ورد التأکید الشدید على إقامة صلاة الجماعة وأن لا یصلی الإنسان منفرداً.
- إستحباب صلاة رکعتین فور دخوله إلى المسجد إن کان متوضئاً أو بعد الوضوء وذلک قبل الشروع بأی عمل آخر من صلاة أو دعاء، وهاتان الرکعتان هما تحیة للمسجد وإجلال له.
- یستحب لجار المسجد أن یصلی فی المسجد، إلا أن یکون له عذر أو به علة، فقیل: ومن جار المسجد یا أمیر المؤمنین؟ قال (علیه السلام): من سمع النداء " أی " الآذان " بالصوت العادی لا بالمکبرات. وأما الأحکام المکروهة فهی:
- إدخال الصبیان غیر الممیزین والمجانین خصوصاً مع عدم التأکد من طهارتهم، وأما إذا کان ممیزاً وعالماً بأحکام الطهارة والصلاة فلا یکره له من أجل تعویده للتردد إلى المسجد.
- أن تجعل المساجد أماکن للتعریف عن الأشیاء الضائعة وما شابه ذلک من الأمور، وکذلک جعل المسجد مکاناً لإلقاء قصائد الشعر خصوصاً ما یتعلق منها بالأمور الدنیویة لأن النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) قد نهى عن ذلک.
- جعل المسجد مکاناً للأحادیث اللغویة واللهویة والدنیویة وعملیات البیع والشراء وما على هذه الشاکلة، لأن کل ذلک یتنافى مع وظیفة المسجد العبادیة والدینیة والروحیة، لأن مثل تلک الأمور مکانها البیوت العادیة أو الأسواق المعدة للتجار.
- کراهة الخروج من المسجد عند سماع الآذان وعدم الصلاة فیه، لأن المسجد أفضل مکان للصلاة، فعندما یخرج المؤمن منه عند الآذان فمعنى ذلک أنه غیر مهتم بالصلاة فی المسجد وهذا یتنافى مع أخلاقیات المسلم فی التعامل مع هذا الرمز الإسلامی العظیم الشأن.
وما ذکرناه من الواجب والحرام والمستحب والمکروه لا یشمل کل فقه المسجد، وإنما اکتفینا بذکر البعض منها للدلالة على أهمیة المسجد فی الإسلام وعلو منزلته ومکانته عند الله وعند المسلمین.
ونذکر فی النهایة بعض الروایات الواردة عن المسجد واستحباب أن یقوم المسلم بأداء کل واجباته الدینیة فیه.
- إستحباب الدعاء عند الدخول إلى المسجد: (بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله وخیر الأسماء کلها لله، توکلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم صلّ على محمد وآل محمد وافتح لی أبواب رحمتک وتوبتک، وأغلق عنی أبواب معصیتک، واجعلنی من زوارک وعمّار مساجدک وممن یناجیک فی اللیل والنهار، ومن الذین هم فی صلواتهم خاشعون، وادحر عنی الشیطان الرجیم وجنود إبلیس أجمعین).
- إستحباب الدعاء عند الخروج من المسجد: (اللهم دعوتنی فأجبت دعوتک وصلیت مکتوبک، وانتشرت فی أرضک کما أمرتنی، فأسألک من فضلک العمل بطاعتک، واجتناب معصیتک والکفاف من رزقک برحمتک).
- إستحباب المشی إلى المسجد: (من مشى إلى مسجد یطلب فیه الجماعة کان له بکل خطوة سبعون ألف حسنة، ویرفع له من الدرجات مثل ذلک، وإن مات وهو على ذلک وکّل الله به سبعین ألف ملک یعودونه فی قبره، ویؤنسونه فی وحدته، ویستغفرون له حتى یبعث).
- إستحباب الصلاة فی المسجد: (علیکم بإثبات المساجد فإنها بیوت الله فی الأرض، ومن أتاها متطهراً طهره الله من ذنوبه وکتب من زواره، فأکثروا فیها من الصلاة والدعاء...)
- إستحباب الجلوس فی المسجد: (عن النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) یا أبا ذر: إن الله تعالى یعطیک ما دمت جالساً فی المسجد بکل نفس تنفست درجة فی الجنة، وتصلی علیک الملائکة، وتکتب لک بکل نفس تنفست فیه عشر حسنات، وتمحی عنک عشر سیئات).
وکل ما ذکرناه هو غیض من فیض عن المسجد وأهمیته ودوره الکبیر من منظارنا الإسلامی، فهو المکان الأنسب للعبادة والتعلم وبناء الشخصیة الإسلامیة القویة بدینها المتمسکة بإیمانها والقادرة على مواجهة ضغوطات الحیاة، لأن المسجد یعطی للمسلم القوة المعنویة والإیمانیة والروحیة التی تجعله متمکناً من النجاة بنفسه من غدر الدنیا الفانیة، وتجعله ینطر إلى الدنیا على أنها مجرد طریق موصل إلى الجنة یوم القیامة.
والحمد لله رب العالمین
الهوامش:
- التوبة / الآیة 18
- الأعراف / الآیة 29
- الأعراف / الآیة 31
- مستدرک الوسائل / ج 3/ ص 356/ ح 3767/ 1
- مصباح المتهجّد / ص 32
- الکافی / ج 3/ ص 309/ ح 4
- أمالی الشیخ الصدوق / ص 517، والحدیث عن النبی (صلى الله علیه وآله وسلم)
- ن. م / ص 440/ ح 584/ 8، والحدیث عن الإمام الصادق (علیه السلام)
- الوسائل / ج 4 / ص 117/ ح 8