إن للمسجد فی المجتمع الإسلامی دوره التاریخی یبقى بقاء العقیدة ویخلد خلود الإیمان ومن مناراته تعلو أصوات المؤذنین وتتکرر کلمات التوحید التی توالت رسل الله تبینها لأممها واضحة المعالم نیرة السبل بینة المراسیم هذه العقیدة التی تجمع الشتیت وتلم الشعث وتربط الأفراد بعضهم ببعض دون نسب ولا صلة، فتذوب أمامها کل الفوارق، وتزول بها کل الحواجز.. بهذه العقیدة أصبح الحفاة العراة رعاة الشاة سادة وقادة..
وأصبحت الأمة الإسلامیة مهیبة الجانب عزیزة السلطان موفورة الکرامة أقامت فی إطار عقیدتها حضارة شامخة وحیاة سعیدة.
ثم یلی ذلک النداء إلى الرکن الثانی وهو إقامة الصلاة فتنعقد صلة العبد بربه بعد توحیده والإقرار له والإیمان به لتزاد عقیدته وتعلو ولتزداد تلک العقیدة سمواً ورفعة ویزداد صاحبها قرباً إلى الله.
فالصلاة عامل وقائی للفرد وللمجتمع من أن تتفشى فیه الفواحش أو المنکرات وهی وسیلة لمناجاة العبد لربه فتزکو نفسه وتنغرس فیها قوة قابلة للخیر فتتکون بهذه النفس الطیبة أسرة صالحة تعمل لبناء المجتمع الناجح، فتکون الألفة شعارها والدین غایتها والمحبة ضالتها المنشودة فمتى تم هذا کما شرعه الله لا یکون بیننا جائع ولا عار ولن تسیل قطرة دمع لظلم ظالم أو طغیان جائر.
یلی هذا النداء مناجاة الله سبحانه وتعالى فتسعد بها النفوس.
إذن فالمسجد هو المرکز الأول للإشعاع الروحی والعلمی لأنه مکان العبادة والتعلم وموطن التذکیر والتفقیه والتوجیه.
فبیت الله الحرام قبلة المسلمین تتجه الوجوه شطره والأبصار نحوه تتحلق والجموع حوله، وهذا رسول الله صلى الله علیه وسلم ینزل المدینة فیکون من أولى خطواته لبناء الدولة الإسلامیة أن یقیم على هذه الأرض الطاهرة مسجده لیعلم الناس الخیر ویجمعهم على عبادة الله.
ولم تکن رسالة المسجد فی الإسلام قاصرة على الصلاة وحدها بل کانت المساجد ولا تزال مفتحة الأبواب لا یرد عنها طالب علم أو قاصد ثقافة.
ففی مسجد الرسول صلى الله علیه وسلم أقام فقراء المهاجرین وفی هذا المسجد استقبل الرسول صلى الله علیه وسلم الوفود ومنه انطلقت البعوث وأرسلت الجیوش.
ولقد کان هذا المسجد الجامعة الأولى التی ربى فیها رسول الله صلى الله علیه وسلم أصحابه على یدیه خیر تربیة فقهوا فی دین الله فکانوا إذا تعلموا من النبی صلى الله علیه وسلم آیات لم یجاوزوها حتى یتعلموا ما فیها من العمل.
فکان الصحابة رضوان الله علیهم یختلفون إلى هذه المدرسة فیصیبون فیها علماً وهدى وفضائل وأدباً وأحکاماً ما اتسعت لذلک أوقاتهم وساعدت علیه ظروفهم.
ولقد کانت التربیة العملیة فی هذه المدرسة الأولى لها المقام الأول فی العنایة لأنها نتیجة العلم وثمرته.
فأصبحت إطاراً لکل فضیلة وسیاجاً من کل ظلم، ومناجاة من کل رذیلة، وحمایة من کل کبر.
فکانت أسالیب رسول الله صلى الله علیه وسلم فی تربیة أصحابه المثل الأعلى فی تکوین الإنسانیة بأسمى صفاتها.
فتخرج أصحاب رسول الله صلى الله علیه وسلم من هذا المسجد بقیادة حمیدة وتعالیم رشیدة یمضون فی مسالک الأرض یقیمون الحق وینصرونه ویدعون الله فقادوا العالم إلى وجهة سلیمة واتجهوا به إلى شاطئ السلام.
حملوا للعالم دیناً ینظم حیاته، ویسایر فطرته، ویسمو بإنسانیته، وأماطوا عنه حجب التشاغل وأزالوا عنه رکام المادة فاهتدت القلوب بعد الضلال، وسکنت النفوس بعد الاضطراب، فکان صحابة رسول الله صلى الله علیه وسلم علماء أجلاء وقواداً عظماء تسیر الفتوحات أین ساروا، ضربوا للعالم بعد رسول الله أروع مثل فی الإخلاص لدین الله مع شجاعة فائقة، ونضوج عقل، فاستطاع المسلمون فی مدة وجیزة أن یقضوا على الدولتین العظیمتین الروم وفارس رغم ما کان لهما من القوة وشدة البأس، وأن یقلبوا التاریخ رأساً على عقب.
هذا کله من نتائج هذه البیوت التی أقیمت لیعلو فیها ذکر الله وتزدان بالتقوى وعبادة الله {فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ, رِجَالٌ لا تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِیتَاءِ الزَّکَاةِ یَخَافُونَ یَوْماً تَتَقَلَّبُ فِیهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}.
إن المسجد حصن من حصون الإسلام کیف لا یکون ذلک وفیه قرآن یتلى وصلاة تقام وتسبیح لله یرتفع.
کیف لا یکون المسجد خیر ما یبنى على الأرض والرسول صلى الله علیه وسلم یقول: «من بنى مسجداً یبتغی به وجه الله بنى الله له بیتاً فی الجنة».
ولهذا نرى أن المسلمین إذا نزلوا أرضاً أو فتحوا مصراً یکون عملهم الأول أن یبنوا مسجداً لله فهو موضع عبادتهم ومرکز تجمعهم، ومجلس قضائهم علانیة بأحکام الله، وما ذهبت دولة المسلمین وضاع سلطانهم واستهان بهم أعداؤهم إلا بانحرافهم عن عقیدتهم، وما زهد المسلمون فی مساجدهم إلا یوم ضعف شأنهم وانحطت کرامتهم وتفرقت کلمتهم وتمزقت دیارهم.
وإننا لنرى الیوم الکثیر من شباب المسلمین یبتعدون عن بیوت الله وهم یعلمون أنهم لن یقوم لهم مجد ولا عز ولن تصبح لهم کرامة وهیبة إلا بعودتهم إلى المساجد فتتعلق بها قلوبهم وتهوى إلیها أفئدتهم فیعمرونها بالإیمان وإقام الصلاة {إِنَّمَا یَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّکَاةَ وَلَمْ یَخْشَ إِلآَّ اللَّه} الآیة.
فالمساجد بیوت الله لا یعبد فیها غیر الله ولا یدعى بها إلا الله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}.
لقد عرفنا ما للمسجد فی الإسلام من مکانة عالیة ومنزلة رفیعة، وأنه بموضع القلب النابض لدى المسلمین، ولهذا نرى أن أول کید فی الإسلام کان کید الذین اتخذوا مسجداً ضراراً وکفراً وفی ذلک یقول الله تعالى: {وَالَّذِینَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَکُفْراً وَتَفْرِیقاً بَیْنَ الْمُؤْمِنِینَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَیَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ یَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَکَاذِبُونَ, لا تَقُمْ فِیهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ یَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِیه . فِیهِ رِجَالٌ یُحِبُّونَ أَنْ یَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ یُحِبُّ الْمُطَّهِّرِینَ، أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْیَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَیْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْیَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِی نَارِ جَهَنَّمَ . وَاللَّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ، لا یَزَالُ بُنْیَانُهُمُ الَّذِی بَنَوْا رِیبَةً فِی قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِیمٌ حَکِیمٌ}.
وإنه لا یخفى الیوم على کل مسلم ما تقوم به الصهیونیة الخبیثة على سمع ومشهد من العالم من انتهاک لحرمات المسلمین، وتهدیم لمعالم الهدى، وإطفاء لنور التقوى مع تقتیل الشیوخ والأطفال والنساء.
فأین نحن الیوم مما کان علیه أبطال بدر وأحد، وفرسان القادسیة والیرموک؟ أین نحن من أولئک القوم الذین دافعوا عن رسالة الإسلام حتى أوصلوا أمانتها إلى من بعدهم سالمة کاملة فتناقلتها العصور حتى وصلت إلینا الیوم.
إنها رسالة الإنسانیة الخالدة التی لا دواء لها من أوصابها إلا بها، وهی أمانة ثقیلة على من أثقل نفسه بالشهوات والأباطیل خفیفة على من عاد إلى فطرة الله وتحرى فی أعماله سبیل الله، وقصد بجمیع تصرفاته وجه الله.
ألا ما أحوج المسلمین الیوم إلى شباب یهضمون رسالة الإسلام فتمتزج بها نفوسهم، وتنبض بها قلوبهم، وتراها الأمم فی أخلاق حملة أمانتها وفی أعمالهم وتصرفاتهم فتنقاد من ورائهم إلى هذا الحق.
لقد أمعن الیهود فی غرورهم وتمادوا فی طغیانهم وازدادوا فی عتوهم دون أن تفل له صفاة أو تقصف لهم قناة.
یا عجباً کل العجب من تمادی هؤلاء المعتدین فی باطلهم وفشل المسلمین عن حقوقهم.
أین نرید، أفراراً من الزحف؟ والله یقول: {وَلَنَبْلُوَنَّکُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِینَ مِنْکُمْ وَالصَّابِرِینَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَکُمْ} أم خوفاً من الموت والله یدعونا إلى الجهاد فی سبیله ویعدنا جنة عرضها السموات والأرض أکلها دائم وظلها {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَیَقْتُلُونَ وَیُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقّاً فِی التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِیلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بَایَعْتُمْ بِهِ وَذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ}.
إن المسلمین الیوم فی حاجة ملحة إلى تمزیق حجاب الجهل بالدین الصحیح وذلک بالالتفاف حول عقیدة الإسلام الخالدة فهی لب الإیمان وجوهر الإصلاح، والعودة إلى تعالیم الدین الحنیف فهو الدین الوافی بمطالب الإنسانیة الصالح لها فی کل جیل یسد عوزها، ویکفیها عن مورد آخر تستقی منه حاجتها فقد أغناها الله بالمنهل العذب والمعین الذی لا ینضب.
وبذلک یکون المسلمون قد وضعوا أیدیهم على مفاتیح العزة وأسباب السعادة فتزول الفرقة وتحل الألفة ثم تنطلق الجموع المؤمنة تقطع الفیافی وتتخطى المفاوز دون أن تتعثر خطاها أو تحید عن غایتها فتدخل ساحة الوغى ومیدان القتال لتحرر مساجد الله من عبث العابثین وظلم الظالمین، إذ أن أعظم بقعة یجب الدفاع عنها والقتال دونها بیوت الله التی ما أقیمت إلا لیعلو فیها ذکر الله.
وفی ذلک یقول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِیَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ یُذْکَرُ فِیهَا اسْمُ اللَّهِ کَثِیراً وَلَیَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ یَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ}.
هذه هی مکانة المسجد فی الإسلام استقیناها من نهج رسول الله صلى الله علیه وسلم وأصحابه الکرام وهم القدوة الحسنة، ولن یصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.