تمیزت دور العبادة قبل الإسلام وبعده باستخدام اسالیب متعددة تضفی على المکانة الهیبة والجلال بل کانت الممرات الطویلة، والأعمدة الضخمة والغرف السریة المظلمة عناصر لا غنى عنها فی هذه العمائر، فضلاً عن الضخامة والسعة. کل هذا من أجل إلقاء الرهبة فی قلب زائرها، لکی یدرک أنه أمام شیء ضخم مهول سیقف فیه إمام إلهه. ولکن جاءت عمارة المساجد فی الإسلام بسیطة، من دون تکلفة تذکر، ومن دون عناصر تؤدی إلى إضفاء الرهبة. وهذا یعبر عن طبیعة الإسلام کدین لا یقر وساطة بین العبد وربه. تأسى المسلمین فی عمارتهم للمساجد، بعمارة الرسول (صلى الله علیه وسلم) لمسجده فی المدینة المنورة، واستوحوا منها الأسس والمضامین التی یجب مراعاتها عند إنشاء أی مسجد فبعد دخول الرسول المدینة، برکت ناقته عند موضع مسجده، ، وکان مربداً لسهل وسهیل وهما غلامان یتیمان من الأنصار، فساومهم رسول الله(صلى الله علیه وسلم) فیه، فقالا: نهبه لک یا رسول الله، فأبى الرسول حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانیر، وکان فیه شجر ونخیل وقبور للمشرکین، فأمر رسول الله بالقبور فدرست، وبالنخیل والشجر فقطعت وصفت فی قبلة المسجد. ونستطیع أن نرى فی بناء مسجد المدینة دروساً معماریة مستوحاة من هدی النبی. الدرس الأول: وهو قاعدة مهمة عند اختیار الأراضی التی تبنى علیها المساجد، وتکون ذات ملکیة خاصة، فیجب أن تؤخذ موافقة أصحابها، وأن یتم تقدیر ثمنها، فالله طیب لا یقبل إلا طیباً. الدرس الثانی: فی تجهیز الموقع وإعداد مواد البناء، فلقد کان بالأرض عند شرائها نخیل وقبور، فأمر بالنخیل أن یقطع وبالقبور أن تنقل، وأن یغیبوا الطوب الذی سوف یستخدم فی بناء حوائط المسجد، وبذلک نجده لم ینتظر حتى یتم إعداد الأرض، ثم یأمر بتجهیز اللبن الذی یحتاج لبعض الوقت لیجف ویصبح صالحاً للبناء. کل ذلک من أجل کسب الوقت، وهذا شبیه بالأسلوب المتبع فی عصرنا الحدیث عند وضع الجداول الزمنیة لتنفیذ عناصر أی مشروع معماری، حیث یمکن عمل مرحلتین أو أکثر فی وقت واحد إن أمکن ذلک، أو أن یشترکا فی جزء من الوقت مما یوفر فی المدة الإجمالیة لتنفیذ المشروع. الدرس الثالث: یعطیه لنا رسولنا الکریم وصحابته (رضوان الله علیهم) وهم یشارکون بأنفسهم فی بناء المسجد، باستخدام المواد المتوافرة فی بیئة المدینة المنورة، فاللبن للحوائط، وجذوع النخیل للأعمدة، وجرید النخل لسقف المسجد، مما یعطی درساً مهماً فی المشاریع العامة فی البیئات الفقیرة.
والدرس الرابع: یعطیه لنا رسول الله یوم أقر فعل تمیم الداری حینما أسرج المسجد النبوی بالقنادیل، وبذلک یمکن القول بأن رسول الله کان یشجع أی عنصر معماری جدید یمکن أن یضاف إلى المسجد ویسهل من أداء وظیفته وأمر استخدامه. وهذا النموذج یبین لنا أن الرسول عند عمارته لمسجده ترک حریة الابتکار والإبداع للمسلمین وفقاً للزمان والمکان ولکن فی حدود ضوابط الشرع.
نشأ عن تعالیم الرسول من خلال أحادیثه وما أقره القرآن الکریم من مبادئ ما نستطیع أن نطلق علیه فقه عمارة المساجد فی الإسلام، حیث یرتکز على تهیئة الفراغ المعماری الذی یساعد المسلم على الخشوع والرهبة وهو واقف بین یدی الله سبحانه وتعالى.
ومن الأحادیث الشریفة التی صاغت فقه عمارة المساجد، الحدیث النبوی: «الصف الأول على مثل صف الملائکة»، وفی حدیث آخر قال: «لو یعلم الناس ما فی الصف الأول ثم لم یجدوا إلا أن یستهموا علیه لاستهموا». ومن هنا جعل المعمار الصف الأول أطول صفوف المسجد، بل جعل تخطیط المسجد یأخذ الشکل المستطیل حتى تأخذ الصفوف المتعاقبة أطول حد لها ممکن. وهذا الشکل له العدید من الممیزات منها، أنه یحقق مساواة الصفوف وتناظرها واعتدالها، ویحقق سد الثغرات ویحقق الاستغلال الأمثل للمساحة فلا توجد مساحات مهدرة. وأیضاً من الأحادیث النبویة الشریفة التی صاغت فیه عمارة المساجد، حدیث رسول الله: «لو یعلم المار بین یدی المصلی ماذا علیه لکان أن یقف أربعین خیراً له من أن یمر بین یدیه». ونستخلص من ذلک أن أفضل المداخل إلى المسجد هو الباب المواجه للقبلة لأنه یحقق اکتمال الصفوف الأولى ویقلل من تخطی رقاب الناس عدم فتح أبواب فی جدار القبلة ویستثنی من ذلک تخصیص باب لدخول الإمام إذا دعت الضرورة. المداخل على جانبی المسجد تکون مناسبة کلما ابتعدنا عن جدار القبلة للأسباب السابق ذکرها. هکذا صاغ رسولنا الکریم لنا إشارات تهدینا إلى النموذج الأمثل لعمارة المساجد. وما علینا إلا أن نعمل وفقها.