وعلیکم حفظ المسجد الذی أنشأه المسلمون بمدینتکم لا تمنعوا منه مصلینا وعلیکم کنسه وإسراجه وتکریمه.
وهکذا کان هذا أول مسجد بنی فی السودان ثم تلاه مسجد دنقلا العجوز فی 9 یونیو 1318م علی ید الملک النوبی المسلم سیف الدین برشنبو کما جاء على حجر تأسیسه والذی لا زال یوجد فی الطابق الثانی فی المسجد.
مسجد الخرطوم الکبیر (مسجد عباس سابقاً) وعباس المقصود هنا هو الخدیوی عباس باشا حلمی الذی تولى الحکم فی 8 ینایر1892م ویقع المسجد فی وسط میدان عباس حالیاً (میدان الأمم المتحدة) وشماله (سرای الحاکم) القصر الجمهوری حالیاً وجنوبه السوق ونلاحظ أن موقع المسجد یتوسط مدینة الخرطوم وهذا یؤکد أن مدینة الخرطوم التی أتخذت کعاصمة للبلاد فی فترة الترکیة عام 1830م أنشئت على نسق تخطیط المدن الإسلامیة والذی یقع فیها دائما المسجد فی الوسط حیث یعتبر مرکز المدینة ومحور حرکتها وقاسمها المشترک الذی یحتل أهمیة کبیرة فی تخطیط المدینة العربیة القدیمة والحدیثة فهو یعتبر المحرک لکل حیاة المدینة.
ویمکن أن تدرک تخطیط مدینة الخرطوم کمدینة إسلامیة نجده فی تخطیط وإنشاء مسجد الخرطوم الکبیر حیث یعتبر أعلى مبنى فی الخرطوم عند إنشائه وهو مبدأ أساسی فی العمارة الإسلامیة أن لا یعلو أی مبنى علی مبنى المسجد.
وضع حجر الأساس لمسجد الخرطوم فی 17 سبتمبر 1900م وتم إفتتاحه عند زیارة الخدیوی عباس باشا حلمی للسودان فی 4 دیسمبر 1901م والمنطقة التی شید فیها المسجد هی جزء من مقابر الخرطوم القدیمة ویقع المسجد فی الجزء الغربی من المقابر ولازالت الحفریات داخل المسجد تخرج عظام بشریة.
تکونت لجنة لإدارة المسجد من مواطنی الخرطوم القدیمة یرأسها عمدة المنطقة الشرقیة للخرطوم المرحوم عثمان منصور وکان أبرز أعضائها المرحوم محمود القبانی.
شکل مسجد الخرطوم مشابه تماما للمساجد فی المناطق المبکرة حیث نجد أن شکل البناء مربع وهی خاصیة للمساجد فی بلاد العراق وفارس ومصر حیث أن المسجد مربع 45 × 45 متر وهنالک ثلاثة أبواب من الخشب مستطیلة بها زخرفة إسم الجلالة بعبارة الله اکبر ومجموعة من الشبابیک المستطیلة فی الإتجاهات الأربعة بنفس الزخرفة ویعلو کل شباک منورین مستطیلین مع منور دائری یعلوهما.
وبالمسجد مئذنتان إحداهما
من الناحیة الجنوبیة والثانیة من الناحیة الغربیة تمیزتا بشکل معماری بدیع حیث أنشئتا على شکل ثلاثة أبراج زینت بأشکال زخرفیة بدیعة وهو ما یعرف بزخرفة التوریف والتی سیطر النحات فیها علی الحجر الرملی النوبی وإستطاع أن یصنع منه أشکال عالیة الروعة من المقرنصات والقریلات الحجریة للأبراج کما إستعمل الأشکال المجردة. أما قمة المئذنة فقد قطعت علی شکل کرة بیضاویة من قطعة واحدة من الحجر الرملی النوبی ویعلوها ثلاث کرات حدیدیة ثم هلال مقفول من الحدید مطلی بالفضة. ولسور المسجد الخارجی أبواب أربع أختیرت على شوارع رئیسیة من شوارع المدینة حیث نجد إحداهما من الناحیة الشمالیة یفتح على شارع یمتد حتى النیل الأزرق والثانی من الناحیة الجنوبیة على شارع یمتد حتى رئاسة السکة حدید وغرباً حتى النیل الأبیض وشرقاً حتى خط السکة حدید الممتد إلى مدینة الخرطوم بحری حیث تمثل هذه النهایات حدود مدینة الخرطوم القدیمة.
أضیفت بعض المبانی فی العقد الأخیر من القرن الماضی داخل المسجد تتمثل فی مصلیات غرب مبنى المسجد الرئیسی ومکتبة لبیع الکتب فی الجزء الجنوبی من سور المسجد حیث أن هذه المبانی تشکل عمارة دخیلة على المسجد فی الشکل ومواد بنائها مخالفة لمواد بناء المسجد مما أدى إلى تنافر معماری مع جسم المسجد. ونشیر إلى إستخدام الحجر الرملی النوبی Nubian Sand Stone والذی أحضر من جبل أولیاء وتم تقطیعه بواسطة عمال مهرة أحضروا من مصر یساعدهم عمال سودانیین والذی صادف العمل فی بناء خزان جبل أولیاء ، کما أن هنالک طوب أحمر أستخدم کرباط وحلیة فی البناء عند الواجهات الأربع مع تلوینه بالبوهیة السوداء بطریقة فنیة وأستعملت مادة الجیر المطفئ بعد خلطه بالرمل وتحمیره لفترة محدودة وتشعیره بالأسمنت البورتلاندی بنسبة ثابتة.
ونجد بعض الزخارف فی أعلى الأبواب نحتت فی أصل حجر البناء بعد تقطیعه إلى کتل منتظمة على أشکال مستطیلة أو مربعة وبأحجام مختلفة مما أعطى واجهة المسجد تباین متناسق وجعل المسجد یزخر بالزخارف والحلی المعماریة وخاصة فی المآذن کما ذکرنا سابقاً.
بدایة بناء هذا الصرح الدینی الشامخ کانت عام 1864م ثم تواصل العمل عام 1898م فی عهد خورشید باشا إلى أن إکتمل تشییده عام 1902 وبعد ذلک تتابعت بعض المحاولات لتأهیله وللأسف لم یکتب لها النجاح الکامل .. وقد إقتصرت على إنشاء معهد للتعلیم الدینی وبرندات خارجیة ودورات المیاه القدیمة وذلک فی أواخر الثمانینات من القرن الماضی.
کذلک تم إنشاء ساحة الإمام مالک لتقدم فیها الدروس والعلوم الشرعیة بمساحة ألف متر مربع وساحة عبد الله بن مسعود الشمالیة مع الإنتهاء من البرندات الخارجیة وتجهیزها للصلاة.
والآن الداخل إلى المسجد الکبیر یلحظ أن الحمامات القدیمة تقع فی الجهة الأمامیة فقد تقرر إزالتها وإقامة حدائق مکانها .. وتم بناء دورات جدیدة بالناحیة الغربیة من طابقین وسیکتمل العمل فیها قریباً بإذن الله .. إضافة إلى زیادة عددیة الوضایات وسقفها بمظلات ومصلى خاص بالنساء یسع أکثر من 500 مصلیة.
یقع المسجد الکبیر فی قلب الخرطوم تماماً .. ویصل إلیه الناس من جهات عدة بکل سهولة ویسر. أما تاریخیاً فهو کما أسلفنا یعود إلى زمن بعید یناهز المائة عام .. ولذلک أصبحت هذه المنارة الدینیة التاریخیة الممیزة تحت إشراف الهیئة القومیة للآثار ولا یمکن تعدیل أو تغییر أی من مبانیه القدیمة إلا بعد موافقة هیئة الآثار.
وما یمیز مسجد الخرطوم الکبیر هو مساحته الواسعة وبنائه المتین.. رغم عمره الطویل .. وسوره الجدید الجمیل .. والأعداد الهائلة المتزایدة یوماً بعد یوم من المصلین الذین یرتادونه فی جمیع أوقات الصلاة مما أجبر لجنة المسجد على التفکیر والإبتکار بإستمرار لزیادة المصلیات حتى یتمکن من إستقبال 100 ألف شخص بعون الله.
ومن الأشیاء التی إرتبطت إرتباطاً وجدانیاً برواد المسجد الکبیر منبره القدیم الذی یعتبر إرثا إسلامیاً عریقا ویشکل لوحة جمالیة ممیزة بالمسجد ومع أنه یشغل حیزاً کبیراً بالجهة الأمامیة إلا أن إعتیاد الناس علیه لفترة طویلة وإمتزاجه نفسیاً وتاریخیاً بأذهانهم جعل لجنة المسجد تترکه کما هو من غیر أی تعدیل.