وهو أیضاً أولى القبلتین حیث صلى إلیه النبی محمد والمسلمون سبعة عشر شهراً قبل أن یؤمروا بالتحول شطر المسجد الحرام، کما أنه ثالث الحرمین بعد المسجد الحرام بمکة المکرمة والمسجد النبوی بالمدینة المنورة.
وبالإضافة إلى ذلک فقد ظل المسجد الأقصى على مدى قرون طویلة مرکزاً هاماً لتدریس العلوم ومعارف الحضارة الإسلامیة، ومرکزاً للاحتفالات الدینیة الکبرى، ومکانا لإعلان المراسیم السلطانیة وبراءات تعیین کبار الموظفین.
المسجد الأقصى المبارک :
هو اسم لکل ما دار حوله السور الواقع فی أقصى الزاویة الجنوبیة الشرقیة من مدینة القدس القدیمة المسورة بدورها، ویشمل کلا من قبة الصخرة المشرفة (ذات القبة الذهبیة) والموجودة فی موقع القلب منه، والجامع القِبْلِی[1](ذو القبة الرصاصیة السوداء) والواقع أقصى جنوبه ناحیة "القِبلة"، فضلا عن نحو 200 معلم آخر تقع ضمن حدود الأقصى، ما بین مساجد، ومبان، وقباب، وأسبلة میاه، ومصاطب، وأروقة، ومدارس، وأشجار، ومحاریب، ومنابر، ومآذن، وأبواب، وآبار، ومکتبات، فضلا عن الساحات.
البناء والتاریخ
ثانی مسجد وضع فی الأرض, عن أبی ذر الغفاری ، رضی الله تعالى عنه، قال: قلت یا رسول الله أی مسجد وضع فی الأرض أول؟ قال:" المسجد الحرام" ، قال: قلت ثم أی؟ قال:" المسجد الأقصى"، قلت: کم کان بینهما؟ قال:"أربعون سنة، ثم أینما أدرکتک الصلاة فصله، فان الفضل فیه." (رواه البخاری.)
والأرجح أن أول من بناه هو آدم علیه السلام، اختط حدوده بعد أربعین سنة من إرسائه قواعد البیت الحرام، بأمر من الله تعالى، دون أن یکون قبلهما کنیس ولا کنیسة ولا هیکل ولا معبد.
وکما تتابعت عملیات البناء والتعمیر على المسجد الحرام، تتابعت على الأقصى المبارک، فقد عمره سیدنا إبراهیم حوالی العام 2000 قبل المیلاد، ثم تولى المهمة أبناؤه إسحاق ویعقوب علیهم السلام من بعده، کما جدد سیدنا سلیمان علیه السلام بناءه، حوالی العام 1000 قبل المیلاد. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِیِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَمَّا فَرَغَ سُلَیْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَیْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا حُکْمًا یُصَادِفُ حُکْمَهُ وَمُلْکًا لَا یَنْبَغِی لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ وَأَلَّا یَأْتِیَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا یُرِیدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِیهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ کَیَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" فَقَالَ النَّبِیُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِیَهُمَا وَأَرْجُو أَنْ یَکُونَ قَدْ أُعْطِیَ الثَّالِثَةَ".(رواه ابن ماجه والنسائی وأحمد).
ومع الفتح الإسلامی للقدس عام 636م (الموافق 15 للهجرة)، بنى عمر بن الخطاب رضی الله عنه الجامع القبلی، کنواة للمسجد الأقصى. وفی عهد الدولة الأمویة، بنیت قبة الصخرة، کما أعید بناء الجامع القبلی، واستغرق هذا کله قرابة 30 عاما من 66 هجریة/ 685 میلادیة - 96 هجریة/715 میلادیة، لیکتمل بعدها المسجد الأقصى بشکله الحالی
قبة الصخرة
تعتبر قبة الصخرة المشرفة إحدى أهم المعالم المعماریة الإسلامیة فی العالم: ذلک أنها إضافة إلى مکانتها وقدسیتها الدینیة، تمثل أقدم نموذج فی العمارة الإسلامیة من جهة. ولما تحمله من روعة فنیة وجمالیة تطوی بین زخارفها بصمات الحضارة الإسلامیة على مر فتراتها المتتابعة من جهة أخرى، حیث جلبت انتباه واهتمام الباحثین والزائرین وجمیع الناس من کل بقاع الدنیا لما امتازت به من تناسق وانسجام بین عناصرها المعماریة والزخرفیة حتى اعتبرت آیة من فی الهندسة المعماریة .
تتوسط قبة الصخرة المشرفة تقریباً ساحة الحرم الشریف، حیث تقوم على فناء (صحن) یرتفع عن مستوى ساحة الحرم حوالی 4م، ویتوصل إلیها من خلال البوائک (القناطر) التی تحیط بها من جهاتها الأربع .
بنى هذه القبة المبارکة الخلیفة الأموی عبد الملک بن مروان (65-86هـ/ 684-705م)، حیث بدأ العمل فی بنائها سنة 66هـ/ 685م، وتم الفراغ منها سنة 72هـ/ 691م. وقد اشرف على بنائها المهندسان العربیان رجاء بن حیوة وهو من بیسان فلسطین ویزید بن سلام مولى عبد الملک بن مروان وهو من القدس .
وقد وضع تصمیم مخطط قبة الصخرة المشرفة على أسس هندسیة دقیقة ومتناسقة تدل على مدى إبداع العقلیة الهندسیة الإسلامیة، حیث اعتمد المهندس المسلم فی تصمیم هیکلها وبنائها على ثلاث دوائر هندسیة ترجمت بعناصر معماریة لتشکل فیما بعد هذا المعلم والصرح الإسلامی العظیم. وما العناصر المعماریة الثلاثة التی جاءت محصلة تقاطع مربعین متساویین فهی: القبة التی تغطی الصخرة وتحیط بها، وتثمینتین داخلیة وخارجیة تحیطان بالقبة نتج فیما بینهما رواق داخلی على شکل ثمانی الأضلاع.
فأما القبة التی جاءت بمثابة الدائرة المرکزیة التی تحیط بالصخرة فإنها تجلس على رقبة تقوم على أربع دعامات حجریة (عرض کل منها ثلاثة أمتار) واثنین عشر عموداً مکسوة بالرخام المعرق، تحیط بالصخرة بشکل دائری ومنسق بحیث یتخلل کل دعاة حجریة ثلاثة أعمدة رخامیة. وتتکون القبة من طبقتین خشبیتین داخلیة وخارجیة وقد نصبتا على إطار خشبی یعلو رقبة القبة. کما زینت القبة من الداخل بالزخارف الجصیة المذهبة، وأما من الخارج فقد صفحت بالصفائح النحاسیة المطلیة بالذهب .
وأما رقبة القبة فقد زینت من الداخل بالزخارف الفسیفسائیة البدیعة، کما فتح فیها ست عشرة نافذة لغرضی الإنارة والتهویة .
تاریخ بناء قبة الصخرة
لقد بات معروفاً تماماً أنه تم الفراغ من بناء قبة الصخرة المشرفة عام 76هـ/ 691م أی فی فترة الخلیفة الأموی عبد الملک بن مروان (65-86هـ/ 684-705م)، وذلک حسب النص المادی والموجود حتى یومنا الحاضر والذی یتمثل بالنقش التذکاری المعمول من الفسیفساء المذهبة بالخط الکوفی الأموی والواقع أعلى التثمینة الداخلیة للقبة فی الجهة الشرقیة الجنوبیة منها .
یقول النص (( .. بنى هذه القبة عبدالله الإمام المأمون أمیر المؤمنین فی سنة اثنتین وسبعین تقبل الله منه ..)) وهنا للقارئ أن یتساءل کیف تداخل اسم "المأمون" الخلیفة العباسی (198-218 هـ/ 813 – 833م) مع التاریخ 72 هـ .
والجواب هنا أنه أثناء أعمال الترمیم التی جرت فی فترة الخلیفة العباسی المأمون، قام أحد الفنیین بتغییر اسم عبد الملک الخلیفة الأموی مؤسس وبانی قبة الصخرة، ووضع مکانه اسم "المأمون" ولکنه نسی أن یغیر التاریخ حیث تم اکتشاف الأمر بسهولة، ولا نظن هنا أنه کان للمأمون ریاً فی هذا الأمر، وإنما جاء من قبیل الصدفة على یدی أحد الصناع .