على مستوى التبلیغ والواقع، کان الهدف من نهضة الإمام الحسین (ع) إقامة الحق والعدالة: »إنما خرجتُ لطلب الإصلاح فی أمة جدی، أرید أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنکر... «. نقرأ فی زیارة الأربعین وهی من أفضل الزیارات: »ومنح النصح، وبذل مهجته فیک لیستنقذ عبادک من الجهالة وحیرة الضلالة«. ذکر الإمام الحسین وهو فی طریقه إلى کربلاء حدیثاً معروفاً عن الرسول (ص) قال فیه: »أیها الناس إن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلّم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله، ناکثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله صلى الله علیه وآله وسلّم، یعمل فی عباد الله بالإثم والعدوان، فلم یغیّر علیه بفعل ولا قول، کان حقاً على الله أن یدخله مدخله«. کل آثار الإمام الحسین وأقواله، والأقوال الواردة فیه عن المعصومین، تؤکد أن الغایة التی توخاها هی إقامة الحق والعدل والدین الإلهی وتکریس سیادة الشریعة وهدم صرح الظلم والجور والطغیان. الهدف هو مواصلة طریق الرسول الأکرم (ص) والأنبیاء السابقین: »یا وارث آدم صفوة الله، یا وارث نوح نبی الله... « ومن الواضح لأی غایة بعث الأنبیاء: »لیقوم الناس بالقسط«. إقامة القسط والحق وتأسیس الحکم والنظام الإسلامی.
الشیء الذی منح الاتجاه لنهضتنا ویجب أن یمنحنا الاتجاه الیوم أیضاً، هو بالضبط ذلک الشیء الذی ثار الحسین بن علی (ع) من أجله. إننا الیوم نقیم مراسیم العزاء بکل وفاء لشهدائنا الذین استشهدوا فی شتى الجبهات وفی سبیل هذا النظام وصیانته. الشهید أو الشاب الذی استشهد فی الحرب المفروضة أو فی مواجهة مختلف صنوف الأعداء والمنافقین والکفار، لا توجد لدى جماهیرنا أیة شبهة فی أنه شهید درب هذا النظام الذی استشهد من أجل حفظ هذا النظام وهذه الثورة وتحکیم دعائمها. والحال أن وضع شهداء الیوم یختلف عن شهداء کربلاء الذین نهضوا بوحدة وغربة مطلقة ولم یشجعهم أحد على السیر فی هذا الطریق، بل نهاهم کافة الناس والشخصیات الإسلامیة المعروفة، لکن إیمانهم وحبهم مع ذلک کان فیاضاً إلى درجة أنهم ساروا واستشهدوا مظلومین غرباء. وضع شهداء کربلاء یختلف عن شهداء تدفعهم کل الأجهزة الإعلامیة والمشجعات الاجتماعیة إلى السیر للجبهات والاستشهاد فیها. هؤلاء شهداء ذوو مکانة سامقة طبعاً، لکن أولئک شیء آخر.
* * * * *
أشکر جمیع الإخوة والأخوات، وأرحب بکم جمیعاً لا سیما عوائل الشهداء الکریمة والشباب والیافعین وهم ذکریات أعز أفراد المجتمع والبلاد وأعظمهم تضحیةً، وأرحب کذلک بالمعاقین الأعزاء وعوائلهم، وبکل الشرائح الشاعرة بالمسؤولیة حیال قضایا البلاد والثورة. جمیعکم تقریباً فی هذا الاجتماع أو أغلبکم من الشباب المتوثّب ومن آمال حاضر البلاد والثورة ومستقبلها، ولکم مشاعرکم ودورکم ونصیبکم فی صناعة مستقبل البلد وحاضره، وبینکم أشخاص یمکن أن یکونوا شخصیات محترمة وباعثة على الفخر والعزة للبلاد والشعب. من المناسب فی هذا اللقاء أن نتحدث عن شعاع من النهضة الحسینیة وتضحیات الإمام أبی عبد الله (علیه الصلاة والسلام) وأن نستلهم منه هذا الدرس، خصوصاً وأن الأیام أیام آخر شهر صفر ویکاد ینقضی هذان الشهران الذان تتکرر فیهما واقعة عاشوراء. فی إحدى زیارات الإمام الحسین (علیه السلام) التی تُقرأ فی یوم أربعینه، ثمة عبارة عمیقة المعنى تقول: »وبذل مهجته فیک لیستنقذ عبادک من الجهالة«. إنها عبارة تنطوی على فلسفة التضحیة التی أبداها الحسین بن علی (ع). یقول الزائر لله تعالى: إن عبدک هذا - الإمام الحسین - بذل دمه لینقذ الناس من الجهالة ومن حیرة الضلالة«. أراد إنقاذ الناس من التیه والحیرة والضلال. أنظروا کم هی عمیقة وذات معنى سامٍ ورفیع هذه العبارة.
من کلمته فی لقائه مجموعة من المضحین والمعلمین والریاضیین بتاریخ 21/6/1369ش (12/9/1990م)
* * * * *
من بین أقوال الإمام أبی عبد الله الحسین علیه الصلاة والسلام - وفی کل واحد منها فکرة وحکمة، وأقول لکم أیها الأعزاء إنه ینبغی الاستفادة إلى أقصى حد ممکن من أقوال هذا الإنسان العظیم لعرض الآراء البلیغة النیرة على الناس - أرى هذه العبارة ملائمة لمجلسنا، فقد روی عنه قوله: »اللهم إنک تعلم أن الذی کان منا لم یکن منافسةً فی سلطان ولا التماس شیء من فضول الحطام« ... إلهی، هذه الخطوة التی اتخذناها، وهذه النهضة التی نهضناها، وهذا القرار الذی اتخذناه للخروج، أنت تعلم أنه لم یکن من أجل سلطة أو حکم. طلب السلطة لا یمکن أن یکون هدفاً للإنسان. لم نشأ أن نمسک بأیدینا زمام السلطة. ولم یکن هدفنا منالاً دنیویاً نریده للتمتع بحلاوة الحیاة ونعمائها وإصابة اللذة من طیباتها، أو جمع الأموال وتکدیس الثروات. لم تکن هذه أهدافنا. إذن ما هو الهدف والغایة؟ ذکر علیه السلام عبارات رسمت الخط والاتجاه لنا. إنها الجهة الحقة فی کل أطوار الدعوة للإسلام. » ولکن لنُری المعالم من دینک«... من أجل أن نرفع رایات الدین للناس ونبصِّرهم بمعالم الدین. المعالم والمؤشرات مهمة جداً. یستخدم الشیطان بین الجماعات المتدینة أسلوب التحریف دوماً ویدلهم على الطریق بشکل مغلوط. لو استطاع أن یقول لهم »دعوا الدین جانباً« لفعل، حتى یسلب الناس إیمانهم الدینی عن طریق الشهوات والدعایات المضرة. ولکن إذا تعذّر ذلک عمد إلى تضلیل معالم الدین. کما لو کنتم تسیرون فی الطریق فترون علامة دالّة تشیر إلى اتجاه معین، والحال أن ید خائنة بدلّت اتجاه تلک العلامة لتوجّهکم نحو الطریق الخطأ. جعل الإمام الحسین (ع) هدفه الأول: »لنُری المعالم من دینک ونظهر الإصلاح فی بلادک«. نرید استئصال الفساد وتکریس الإصلاح فی البلاد الإسلامیة. ما معنى الإصلاح؟ معناه القضاء على الفساد. وما هو الفساد؟ للفساد أنواع وأقسام: السرقة فساد، الخیانة فساد، التبعیة فساد، العسف فساد، الانحرافات الأخلاقیة فساد، الانحرافات المالیة فساد، العداوات بین الأصدقاء فساد، المیل لأعداء الدین فساد، إبداء الرغبة فی الأمور الناقضة للدین فساد. کل شیء ینوجد فی ظل الدین. یقول فی عباراته التالیة: »ویأمن المظلومون من عبادک«، لکی یشعر عبادک المظلومون بالأمن والطمأنینة. والقصد هنا هم مظلومو المجتمع، ولیس الظالمون والجائرون ومدّاحو الظلم وعملاؤه. »المظلومون« هم المغلوبون على أمرهم ومن لا یستطیعون فعل شیء. الهدف هو أن یأمن مستضعفو المجتمع أینما کانوا وفی کل المستویات.. الأمن على السمعة، الأمن المالی، الأمن القضائی، هذا الذی یفتقر له العالم الیوم. أراد الإمام الحسین (ع) الموقف المضاد لما کان علیه الحال فی حکومة الطواغیت آنذاک. وحین تنظرون الیوم للوضع فی العالم تلاحظون الشیء ذاته. ینکّسون رایات الدین، یزیدون من الظلم الذی یصیب عباد الله المظلومین، وینشب الجائرون أظفارهم فی دماء المظلومین أکثر فأکثر. أنظروا ما الذی یجری فی العالم الیوم! أنظروا کیف یعاملون مسلمی کوسوفا! خمسمائة ألف إنسان بل أکثر... أطفال، وکبار، ونساء، ورجال، ومرضى فی البوادی وعلى الحدود، وهی لیست حدوداً وبوادی عطوفة، بل هم وسط الأعداء، وتحت ضغط أعداء یزرعون الطریق قبالتهم بالألغام ویطلقون النیران من خلفهم. الغایة هی أن یبیدوهم. أقول لکم الیوم - ولا أرید الخوض فی تفاصیل هذا الموضوع - إن الإرادة العامة انعقدت على تدمیر وتشرید المسلمین فی البلقان. یریدون الحؤول دون قیام دولة إسلامیة أو منظومة إسلامیة، مهما کان نوع إسلامها، حتى لو کان إسلاماً لم یسمع أصحابه المعارف الإلهیة منذ مائة عام. حتى هذا المقدار خطیر بالنسبة لهم. یعلمون أن الجیل الحالی من مسلمی البلقان حتى لو افترضنا أنه غیر عارف بالإسلام، فإن جیل الغد سیتعرف على الإسلام. مجرد أن تنبعث فیهم الهویة الإسلامیة فهذا خطر بالنسبة لأولئک. وقد أشار البعض منهم لهذه النقطة فی تصریحاته. تلک الدول یقاتل بعضها بعضاً، بید أن ما یُهمل وسط هذه الاشتباکات ولا یُولى أهمیةً حقیقیة - رغم ما تنطق به ألسنتهم أحیاناً - هو حال المسلمین المظلومین، »یأمن المظلومون من عبادک«. الغایة من أیة نهضة، والهدف من کل ثورة، والمبتغى من أیة سلطة إسلامیة، بل الهدف من سیادة الدین الإلهی أساساً هو تحسین حال المظلومین والعمل بالفرائض والأحکام والسنن الإلهیة. یقول الإمام الحسین أخیراً: »ویعمل بفرائضک وأحکامک وسننک«. هذه هی أهداف الإمام الحسین. قد یظهر فلان من الناس من ناحیة من النواحی ویطلق لقلمه العنان حول أهداف النهضة الحسینیة دون أبسط إلمام بالمعارف الإسلامیة وبأقوال وأحادیث الإمام الحسین، أو حتى باللغة العربیة، ویقول إن الإمام الحسین ثار لهذا الهدف أو ذاک! من أین لکَ هذا؟! هذا کلام الإمام الحسین (ع): »ویُعمل بفرائضک وأحکامک وسننک«. أی إن الإمام الحسین (ع) ضحى بنفسه وبنفوس أطهر الناس فی زمانه من أجل أن یعمل الناس بأحکام الدین، لماذا؟ لأن السعادة رهن العمل بأحکام الدین، ولأن العدالة کامنة فی العمل بأحکام الدین، ولأن الحریة والتحرر الإنسانی منوطان بالعمل بأحکام الدین. کیف للناس أن یتمتعوا بالحریة؟ فی ظل أحکام الدین تتحقق کافة المطامح الإنسانیة. إنسان الیوم من حیث حاجاته الرئیسیة لم یختلف أدنى اختلاف عن الإنسان قبل ألف عام والإنسان قبل عشرة آلاف عام. حاجات الإنسان الرئیسیة هی أنه یرید الأمن، ویرید الحریة، ویرید العلم والمعرفة، ویرید الحیاة المریحة. إنه ینفر من التمییز والظلم. هذه الحاجات الأصلیة لا یمکن تأمینها إلا ببرکة الدین الإلهی. أی من هذه المدارس والمذاهب العالمیة، والمسمیات البراقة المقعقعة لا تستطیع إنقاذ الإنسانیة. لنفترض أنها استطاعت تأمین الحاجات المادیة - أی المال والقدر المطلق من المال - لشریحة معینة من الناس، فهل هذه هی الحاجات الإنسانیة؟! حاجة البشریة الیوم أن یرتفع الناتج الوطنی الإجمالی فی البلد الفلانی إلى کذا ملیار، والحال أن هذا الناتج الوطنی الإجمالی لا یمکنه تأمین طعام الکثیر من أبناء ذلک المجتمع!! فهل هذا یکفی؟! هل ننشد نحن مثل هذا الوضع؟! ما فائدة أن یکون البلد ثریاً، ویکون فیه جیاع کثیرون. یتمتع بإنتاج کبیر ویسوده التمییز والتباین، وتکون فیه فئة یستطیعون بفضل تلک الثروة التی یمتلکها البلد أن یمارسوا الظلم ضد أعداد کبیرة من أبناء بلدهم، ویتعسفوا فی معاملتهم ویستغلوهم! هل من المناسب أن یعمل الإنسان لأجل هذا؟! هل یجب أن یضحی الإنسان لأجل هذا؟ التضحیة إنما تکون فی سبیل العدالة والحریة والغبطة وبهجة الروح الإنسانیة، وهذه ظروف یضمنها الدین. التضحیة مطلوبة لأجل تمتع الناس بالأخلاق الحسنة والفضیلة وتوفر جنان الصفاء فی البیئة الإنسانیة. هذا ما ینبغی العمل له والدعوة إلیه. قرأت حدیثاً حول الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر جاء فیه عن صفات الآمر بالمعروف والناهی عن المنکر أنه »رفیق فیما یأمر ورفیق فیما ینهى«. إذا کان الموضع موضع رفق - وغالب المواضع من هذا القبیل - فعلى الإنسان أن یعمل بالرفق لأجل أن یستطیع إقناع القلوب والأذهان بتلک الحقائق عن طریق المحبة. هذه هی الغایة من الدعوة والتبلیغ: إحیاء الأحکام الإلهیة والإسلامیة. هذه الفرصة متوفرة الیوم فی بلادنا والحمد لله، ورجال دولتنا یحملون هم الدین. نعم، الدعایة الأجنبیة تروم الإیهام بأن مسؤولی البلاد وشخصیاتها البارزة، أو بعضهم، لا یأبهون للأمور الدینیة! کلا، هذا غیر صحیح. بعضهم لا یفهمون وبعضهم یتعمدون التمویه والإیحاء بهذه المعانی عبر دعایاتهم لتشویش الأذهان وتلویث النفوس. مسؤولو الطراز الأول فی بلادنا الیوم یحملون همّ الدین، ویرومون تطبیق ما یفهمونه من الدین. الأرضیات مهیّأة رغم أن وسائل الإعلام قاصرة والحق یقال. اغتنموا وسیلتکم الإعلامیة هذه. وطبعاً من واجبهم جمیعاً ان یصلحوا أنفسهم، ولکن علیکم أن تعرفوا قدر هذا المنبر الإعلامی وهذا المقر العظیم أی المسجد والحسینیة والعمل تحت خیمة الإمام الحسین (ع). هذا شیء جد نافذ ومؤثر ومبارک. إعملوا على هدایة الناس وتنویر عقولهم وأذهانهم. شجعوا الناس على تعلم الدین. علموهم الدین الصحیح النقی. عرّفوهم الفضیلة والأخلاق الإسلامیة. أخلقوا لدیهم الفضیلة الأخلاقیة عن طریق العمل واللسان. عظوا الناس وحذروهم عذاب الله وقهره وجحیمه. أنذروهم، فللإنذار نصیب وافر یجب أن لا تُنسى. بشروهم بالرحمة الإلهیة... بشروا المؤمنین والصالحین والمخلصین والعاملین وعرفوهم القضایا الرئیسیة فی العالم الإسلامی وفی البلاد. وسیکون هذا هو المشعل الوضّاء الذی إن أوقده أیٌّ منکم - أیها الأعزاء - فی أی مکان لنوّر به القلوب وبثَّ الوعی والمعرفة، وأوجد الحرکة والتوثّب، وعمّق الإیمان فی النفوس. هذا هو السلاح الأمضى فی مواجهة الغزو الثقافی والغارة اللئیمة التی یشنها الأعداء. أنا قلقٌ جداً لهذا الشأن. یریدون منع رجال الدین الشباب، والمؤمنین، الشجعان، الواعین، وحملة الأفکار النیرة من أداء واجباتهم فی المناخات المختلفة کمناخ الجامعة، والسوق، والقریة، والمدینة، والمعمل. الجهة المضادة لجهودهم هذه هی بالضبط هذا العمل والجهاد الذی تنهضون به فی سبیل الله، والذی ینبغی أن یتم بإتقان ودقة، وفوق هذا بإخلاص: »لم یکن منافسةً فی سلطان ولا التماس شیء من فضول الحطام«.
من کلمته فی لقائه العلماء ورجال الدین والمبلغین على أعتاب شهر محرم - 23/1/1378ش (12/4/1999م)
* * * * *
أفصح الإنسان طوال التاریخ عن ذروة أخطائه ومعاصیه وبُعده عن التقوى فی میدان الحکم والسلطة. المعاصی التی صدرت عن الحکام والقادة والمتسلطین على مصائر الناس لا یمکن مقارنتها بالکثیر من کبائر الذنوب التی یقترفها الناس العادیون. فی هذا المیدان، قلما ینتفع الإنسان من عقله وأخلاقه وحکمته. وفی هذا المضمار ساد المنطق بدرجات أقل جداً من سیادته فی صعد الحیاة الإنسانیة الأخرى. الذین دفعوا فواتیر هذه اللاعقلانیة واللامنطقیة والفساد والتلوث بالخطایا هم أبناء البشر، أبناء مجتمع معین تارةً وأبناء عدة مجتمعات فی أحایین أخرى. کانت هذه الحکومات تتخذ فی البدایة شکل الاستبداد الفردی، وبعد ذلک اتخذت مع تطور المجتمعات البشریة شکل الاستبداد الجماعی المنظَّم. لذا کانت أعظم مهام الأنبیاء الإلهیین مواجهة الطواغیت ومن یهدرون النعم الإلهیة: »وإذا تولّى سعى فی الأرض لیفسد فیها ویهلک الحرث والنسل«. الآیة القرآنیة تذکر الحکومات الفاسدة بهذه التعابیر المؤثرة. یسعون لتعمیم الفساد وبثه فی کل مکان. »ألم تر إلى الذین بدّلوا نعمة الله کفراً وأحلّوا قومهم دار البوار، جهنم یصلونها وبئس القرار«. بدّلوا النعم الإلهیة والإنسانیة والطبیعیة کفراً، وأحرقوا الناس الذین ینبغی أن یتمتعوا بهذه النعم فی جحیم مسعّرة من کفرانهم وجحودهم. وقف الأنبیاء بوجه هؤلاء. لو لم یواجه الأنبیاء طواغیت العالم وعتاة التاریخ لما کانت ثمة حاجة للنـزاعات والحروب. حین یقول القرآن الکریم »وکأیّن من نبی قاتل معه ربّیون کثیر« لنا أن نسأل: ضد مَن قاتل الأنبیاء والربیون؟ الطرف الآخر فی حرب الأنبیاء هو هذه الحکومات الفاسدة والقوى المدمِّرة الطاغیة فی التاریخ التی أتعست الإنسانیة حطّمتها.
الأنبیاء منقذو الإنسانیة. لذلک ورد فی القرآن أن إقامة العدل هو الهدف الکبیر الذی توخته النبوات والرسالات: »لقد أرسلنا رسلنا بالبینات وأنزلنا معهم الکتاب والمیزان لیقوم الناس بالقسط«. بل إن تنـزیل الکتب الإلهیة وإرسال الرسل کان أساساً من أجل إقامة القسط والعدل فی المجتمعات البشریة، والقضاء على رموز الظلم والعسف والفساد. تحرک الإمام الحسین علیه السلام کان من هذا القبیل، وقد قال: »إنما خرجت لطلب الإصلاح فی أمة جدی« وقال: »من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله أو تارکاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، یعمل فی عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم یغیّر علیه بقول ولا فعل، کان حقاً على الله أن یدخله مدخله«. أی إذا شاهد الإنسان بؤرةً من بؤر الفساد والجور ولم یکترث لها کان مصیره عند الله نفس مصیر أولئک الجائرین المفسدین الذین لم یکترث لهم. قال علیه السلام: لم أخرج متمرداً متفرعناً ظالماً. دعا أهلُ العراق الإمام الحسین علیه السلام لیحکمهم وأجاب الإمام دعوتهم: بمعنى أن الإمام الحسین علیه السلام لم یکن عدیم التفکیر بالحکم، فقد أراد إسقاط القوى الطاغوتیة سواء باستلام السلطة أو بالاستشهاد وبذل الدماء.
الإمام الحسین (ع) کان یعلم أنه إذا لم یخطُ هذه الخطوة فإن إمضاءه هذا وسکوته سیعود بالضرر الفادح على الإسلام. حینما تکون کافة إمکانات المجتمعات أو مجتمع من المجتمعات بید سلطة تختار لنفسها طریق الطغیان وتسیر فیه، إذا لم ینهض رجال الحق ودعاته بوجهها ولم یؤشروا إلى أخطائها فسیکونوا بذلک قد أمضوا ممارساتها. أی إن الظلم سیُمضى ویُقرّ من قبل أهل الحق من دون أن یکونوا قد نووا ذلک. کانت هذه خطیئةً ارتکبها الأکابر وأبناؤهم من بنی هاشم وأبناء القادة الکبار فی صدر الإسلام. لم یکن الإمام الحسین ممن یطیق هذه الحالة فثار ضدها.
یروى أنه بعد أن عاد الإمام السجاد علیه السلام إلى المدینة عقب واقعة عاشوراء - ربما بعد عشرة أو أحد عشر شهراً من حرکة هذه القافلة من المدینة - جاءه رجل وقال له: یا بن رسول الله، أرأیت ما جرى لکم نتیجة خروجکم؟! وکان على حق طبعاً، فقد خرجت هذه القافلة وعلى رأسها الإمام الحسین بن علی شمسٌ أهل البیت الوضّاءة، وسبط رسول الله والعزیز على قلبه، وخرجت فیها ابنة أمیر المؤمنین بکل عزّ وشموخ، وخرج فیها أیضاً أبناء أمیر المؤمنین - العباس وغیره - وأبناء الإمام الحسین، وأبناء الإمام الحسن، وأبرز وأفضل الشباب من بنی هاشم. وها هی تلک القافلة تعود ولیس فیها سوى رجل واحد هو الإمام السجاد علیه السلام. تعرضت النسوة للأسر والألم والمرارة. لم یکن فیها الإمام الحسین، ولا علی الأکبر، ولا حتى الطفل الرضیع. قال الإمام السجاد فی جواب ذلک الرجل: تصوّر ماذا کان سیحدث لو لم نخرج؟! نعم، لو لم یسیروا لبقیت الجسوم حیة، لکن الحقیقة کانت ستموت، والأرواح کانت ستذوب. والضمائر کانت ستُسحق، والعقل والمنطق کانا سیُدانان على مر التاریخ، ولم یکن سیبقى من الإسلام حتى اسمه.
من کلمته فی لقائه المسؤولین والمدراء فی الجمهوریة الإسلامیة بتاریخ 27/12/1380ش (17/3/2002م)
* * * * *
ما هی طبیعة »العزة والفخار الحسینی«؟ ما الشیء الذی یُفتَخر به هنا؟ مَن یعرف نهضة الإمام الحسین بن علی علیه السلام یعلم أیة عزةٍ هذه العزة. یمکن النظر لهذه النهضة الحسینیة العظیمة الخالدة من ثلاث زوایا. ما یلفت النظر أکثر من أی شیء آخر فی کل واحدة من هذه الزوایا أو الأبعاد الثلاثة هو الشعور بالعزة والشموخ والفخار. أحد الأبعاد هو کفاح الحق ضد الباطل المقتدر وهذا ما قام به الإمام الحسین علیه السلام فی تحرکه الثوری الإصلاحی. البُعد الآخر تجسید المعنویة والأخلاق فی نهضة الحسین بن علی. ثمة فی هذه النهضة مجالٌ کفاحی یختلف عن الجانب الاجتماعی والسیاسی والتحرک الثوری والکفاح العلنی للحق ضد الباطل. إنه مجال النفس الإنسانیة وباطن الأفراد. عقباتُ الضعف، والطمع، والهوان، والشهوات، والأهواء النفسیة حین تصدُّ الإنسانَ عن اتخاذ خطوات مؤثرة وواسعة، فستکون الساحة ساحة حرب.. والحرب هنا حرب عنیفة جداً. حین سار الرجال والنساء المؤمنون المضحون خلف الإمام الحسین بن علی علیه السلام، سقطت من أعینهم الدنیا کلها وجمیع ما فیها من لذائذ مقابل شعورهم بالواجب، وانتصرت النـزعة المعنویة فی بواطنهم على جنود الشیطان (جنود العقل وجنود الجهل کما فی الروایات) وبقوا خالدین عبر التاریخ کشخصیات نموذجیة وکبیرة وسامیة. البعد الثالث وهو الأکثر شیوعاً بین الناس هو بعد الفجیعة والمصیبة والغصص والهموم والحسرات العاشورائیة. ولکن حتى فی هذا البعد الثالث نجد العزة والفخر الحسینی أیضاً. حملة الفکر وأصحاب التدبر والدقة فی النظر لابد أن یأخذوا جمیع هذه الأبعاد الثلاثة بنظر الاعتبار. فی البعد الأول حیث أطلق الإمام الحسین علیه السلام تحرکه الثوری کان مظهر العزة والفخار. من هو الذی وقف فی الجهة المقابلة للإمام الحسین بن علی؟ إنها الحکومة الظالمة الفاسدة السیئة التی »عملت فی عباد الله بالإثم والعدوان«. الصورة العامة هی أنها حکومة تعاملت بالظلم، والعدوان، والغرور، والتکبر، والأنانیة، والتفرعن مع المجتمع الذی حکمته وعباد الله الذین سادتهم. هذه هی الصفة العامة لتلک الحکومة. الشیء الذی لم یکونوا یأبهون له على الإطلاق هو المعنویة ومراعاة حقوق الناس. أعادوا الحکومة الإسلامیة إلى وضعها الطاغوتی الذی کان قبل الإسلام وفی العصور المختلفة فی العالم. والحال أن نظام الحکم یمثل أبرز مفاصل النظام الإسلامی. أی إن أبرز وأهم مرافق المجتمع المثالی الذی یرید الإسلام تحقیقه هو شکل السلطة ونوعها وسلوک الحاکم. وعلى حد تعبیر الشخصیات الکبرى فی ذلک العصر، بدّل الحکام الإمامة إلى ملکیة. الإمامة تعنی قیادة قافلة الدین والدنیا. فی القافلة التی یسیر فیها الجمیع نحو هدف سام واحد، یدل شخصٌ الآخرین ویأخذ بأیدی التائهین ویعیدهم إلى الجادة، وإذا تعب أحدهم شجّعه على مواصلة الطریق، وإذا جرحت قدم أحدهم شدَّ له جرحه، وجاد على الجمیع بمساعداته المعنویة والمادیة. مثل هذا الشخص یسمى فی الاصطلاح الإسلامی إماماً (إمام هُدىً)، والنظام الملکی الوراثی على الضد من هذا. الملکیة بمعنى الحکم الوراثی نوعٌ من أنواع الملکیة. لذلک ثمة سلاطین وملوک فی العالم لا یحملون اسم السلطان، لکن باطنهم زاخر بالتسلط والعسف ضد الآخرین. أی شخص وفی أی عصر من التاریخ - مهما کان اسمه - حین یتعامل مع شعبه أو الشعوب الأخرى بمنطق القوة، فهذا معناه الحکم الملکی. أن یسمح رئیس جمهوریة دولة معینة - وقد کانت هناک دول مستکبرة فی کل عصور التاریخ ومظهرها الیوم أمریکا - بترجیح مصالحه ومصالح الشرکات التی تدعمه على مصالح ملایین الناس، وتحدید مصائر الشعوب فی العالم، دون أی استحقاق أخلاقی أو علمی، أو حقوقی، فهذا حکم ملکی سواء کان لقب هذا الحاکم »ملکاً« أو لم یکن، وفی زمن الإمام الحسین علیه السلام بدّلوا الإمامة الإسلامیة لتکون شیئاً من هذا القبیل: »یُعمل فی عباد الله بالإثم والعدوان«. کان الإمام الحسین علیه السلام یجاهد مثل هذا الواقع. جهاده کان عبارة عن تبیان الحق وإجلائه والهدی نحوه، وتشخیص الحدود بینه وبین الباطل، سواء فی زمن یزید أو قبله. لکن ما حصل وأضیف فی زمن یزید هو أن ذلک الحاکم السائر فی طریق الظلم والضلالة والتیه توقع من إمام الهدى إمضاء حکومته وإقرارها. هذا هو معنى »التبعیة«. أراد إجبارالإمام الحسین علیه السلام على إمضاء تلک الحکومة الظالمة وتأییدها بدل إرشاد الناس وهدایتهم وإیضاح ضلال الحکومة الظالمة لهم! من هنا انطلقت ثورة الإمام الحسین علیه السلام. لولا مثل ذا التوقع الأحمق اللامناسب من قبل حکومة یزید، ربما کان الإمام الحسین قد رفع رایة الهدایة کما فعل فی زمن معاویة وکما صنع الأئمة الأطهار من بعده، واشتغل بإرشاد الناس وتوجیههم وکشف الحقائق لهم. بید أن یزیداً خطا خطوة إضافیة نتیجة جهله وتکبره وبعده عن الفضائل والمعنویة الإنسانیة وتوقع أن یمضی الإمام الحسین علیه السلام هذا الملف الأسود.. ملف تبدیل الإمامة الإسلامیة إلى ملکیة طاغوتیة، أی توقَّعَ أن یبایعه، فقال الإمام »مثلی لا یبایع مثله«. الحسین لا یجترح مثل هذا الإمضاء، وعلیه أن یبقى لواءً للحق إلى الأبد. لواء الحق لا یمکنه الانضمام لصفوف الباطل والتلون بصبغة الباطل. لهذا قال الإمام الحسین علیه السلام: »هیهات منّا الذلة«. نهضة الإمام الحسین کانت نهضة العزة.. عزة الحق، عزة الدین، عزة الإمامة، وعزة الطریق الذی اختطه الرسول الأکرم. کان الإمام الحسین علیه السلام مظهر العزة ولأنه صمد وثبت على الحق فهو مبعث فخر ومباهاة. هذه هی العزة والفخر الحسینی. أحیاناً یطلق الإنسان کلاماً معیناً ویعرب عن رأیه وموقفه وقصده، لکنه لا یثبت على ما قاله بل یتراجع وینکص. مثل هذا الشخص لا یستطیع أن یفخر. الفخر للإنسان والشعب والجماعة التی تثبت على کلامها وموقفها ولا تسمح للعواصف بتمزیق وإسقاط الرایة التی رفعتها. أمسک الإمام الحسین علیه السلام هذه الرایة بقوة وصمد إلى حد استشهاد أحبائه وسبی عائلته الشریفة. هذه هی العزة والفخر الحسینی فی بعد التحرک الثوری. وکذا الحال على مستوى تبلور الحالة المعنویة. ذکرت مراراً أن الکثیرین التقوا بالإمام الحسین علیه السلام ولاموه على ثباته وصموده. ولم یکن هؤلاء شخصیات سلبیة أو صغیرة. البعض منهم کانوا من کبار الشخصیات الإسلامیة، لکنهم أساءوا الفهم وغلبهم الضعف البشری، لذلک أرادوا أن یغلب هذا الضعف الإمام الحسین أیضاً، لکن الإمام صبر ولم یُهزم وانتصر کل واحد ممن کانوا مع الإمام الحسین فی کفاحهم المعنوی والداخلی. الأم التی بعثت ابنها الشاب إلى ساحة المعرکة بکل فخر ورضا، والشاب الذی غض الطرف عن لذائذ الحیاة الظاهریة وسلّم نفسه لساحة الجهاد والکفاح، وشیوخ مثل »حبیب بن مظاهر« و»مسلم بن عوسجة« الذین فارقوا عافیة أیام الشیخوخة وفراش البیوت الدافئ الناعم وتحملوا الصعاب، وذلک القائد الشجاع الذی کان له موقعه فی معسکر الأعداء »الحر بن یزید الریاحی« فغض الطرف عن ذلک الموقع والتحق بالحسین بن علی.. الکل انتصروا فی هذا الجهاد الباطنی والمعنوی. الذین انتصروا یومذاک فی الصراع المعنوی الدائر بین الفضائل والرذائل الأخلاقیة، واستطاعوا تغلیب جنود العقل على جنود الجهل، لم یکن عددهم کبیراً، غیر أن صمودهم وإصرارهم على الثبات فی میدان الشرف کان من شأنه أن یتعلم منه آلاف الآلآف من الناس على مر التاریخ ذلک الدرس ویسیروا فی ذلک الطریق. لو لم یُغلِّب هؤلاء الفضیلة على الرذیلة فی وجودهم، لجفّت شجرة الفضیلة فی التاریخ. لکنهم سقوا تلک الشجرة وقد شاهدتم فی زمانکم الکثیرین ممن غلّبوا الفضیلة على الرذیلة فی دواخلهم وقهروا أهواءهم النفسیة على ید مشاعرهم وبصائرهم وتفکیرهم الدینی والعقلانی السلیم. مقر »دوکوهه« هذا، والمقرات الأخرى، وساحات الحرب وکل أنحاء البلاد شهدت عشرات الآلاف بل مئات الآلاف منهم. والیوم أیضاً استلهم الآخرون الدروس منکم. المستعدون الیوم لتغلیب الحق على الباطل فی ضمائرهم وفی حالات النـزاع بین الحق والباطل لیسوا قلائل. صمودکم - سواء فی فترة الدفاع المقدس أو فی باقی الاختبارات الکبرى التی مر بها هذا البلد - کرّس هذه الفضائل فی زماننا. عصرنا عصر الاتصالات القریبة المباشرة، لکن هذه الاتصالات القریبة لیست لصالح الشیطان وأحابیله دائماً، إنها لصالح المعنویة والأصالة أیضاً. لقد تعلم الناس فی العالم أشیاء کثیرة منکم. نموذج ذلک الأم التی تُقبّل ابنها الشاب فی فلسطین وتبعثه لساحة المعرکة. کان لفلسطین نساؤها ورجالها وشیبها وشبابها طوال سنوات عدیدة، ولکن بسبب الضعف، ولأن جنود العقل لم یکن بوسعهم الانتصار على جنود الجهل فی المعارک المعنویة، مُنیت فلسطین بالذل وأصیبت بالحال التی هی علیها وتسلط الأعداء على مقدراتها. بید أن الوضع فی فلسطین الیوم على شاکلة أخرى، لقد نهضت فلسطین، واستطاع شعبها بنسائه ورجاله تغلیب جیوش المعنویة فی معرکة الضمیر، وهذا ما سیحقق لهم النصر. وعلى المستوى الثالث وهو الفجائع العاشورائیة نلاحظ ملامح العزة أیضاً. هناک أیضاً نلمح الشموخ والرفعة والفخر، رغم کل حالات المصاب والاستشهاد. فمع أن استشهاد کل واحد من شباب بنی هاشم، وأطفالهم الصغار، وأصحابهم الشیوخ حول الإمام أبی عبد الله الحسین علیه السلام کان مصیبةً ووجعاً ألیماً، لکن کل واحد منهم حمل فی الوقت ذاته جوهرة العزة والفخر. أنتم المجتمعین هنا معظمکم من الشباب، وقد حلَّ على مقر »دوکوهه« هذا عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الشباب ورحلوا. مَن هو مظهر الشباب المضحی فی کربلاء؟ إنه علی الأکبر ابن الإمام الحسین علیه السلام، الشاب النموذجی البارز بین شباب بنی هاشم.. الشاب الذی جمع الجمالیات الظاهریة والباطنیة.. الشاب الذی تحلى بمعرفة حق إمامة وولایة الحسین بن علی علیه السلام وأرفق هذه المعرفة بالشجاعة والتضحیة والاستعداد لمواجهة شقاوة الأعداء، وبذل طاقاته وحیویته وشبابه فی سبیل أهدافه ومبادئه العلیا. هذا شیء له قیمة کبیرة. سار هذا الشاب الممیز الفذ إلى ساحة الأعداء، وعاد إلى المخیم جسداً مضمّخاً بالدماء أمام أعین أبیه وأعین النساء القلقات علیه. هذا لیس بالمصاب الصغیر الهیّن. لکن تحرکه هذا نحو الساحة واستعداده للقتال یمثل بالنسبة للمسلم تجسیداً لمعانی العزة والرفعة والفخار والمباهاة. لهذا یقول الله عزوجل: »ولله العزة ولرسوله وللمؤمنین«. والإمام الحسین علیه السلام أبدى بدوره عزة معنویة حین بعث هذا الشاب لساحة الحرب. أی إنه أمسک بقوة رایة شموخ الإسلام وسیادته والمشعل الدال على الحدود الفاصلة بین الإمامة الإسلامیة والملکیة الطاغوتیة، حتى لو کان الثمن حیاة ابنه الشاب الأثیر. سمعتم أن کل واحد من أصحاب الإمام الحسین علیه السلام - وهذا ما یذکر کراراً هذه الأیام - کان یستأذن حین یرید المسیر لساحة الحرب، ولم یکن الإمام لیسمح لهم بسرعة، بل کان یمنع بعضهم، ویقول للبعض غادروا کربلاء وانجوا بأنفسکم. هکذا تعامل علیه السلام مع شباب بنی هاشم وأصحابه. لکن علیاً الأکبر - الشاب المحبوب وولده العزیز - حین طلب الإذن بالسیر لقتال الأعداء، لم یتردد الإمام حتى لحظة واحدة وسمح له على الفور. هنا یمکن إدراک وفاء الأبن وعظمة مقام الأب. حینما کان الأصحاب على قید الحیاة کانوا یفتدون أهل البیت بأرواحهم، ولا یسمحون لأحد من بنی هاشم - أبناء أمیر المؤمنین والإمام الحسن والإمام الحسین علیهم السلام - بالتقدم لقتال الأعداء. کانوا یقولون: نحن نتقدم أولاً ونُقتَل وتقدموا أنتم بعد ذلک لساحة القتال إذا شئتم. حینما وصل الدور لاستشهاد بنی هاشم وتضحیاتهم کان هذا الشاب الشدید الشعور بالمسؤولیة أوّل من طلب الإذن بالبروز للقتال.. إنه علی الأکبر نجل الزعیم والإمام وأقرب الجمیع إلى الإمام. إذن، فهو أجدر الجمیع بالتضحیة. هذا أیضاً مظهر من مظاهر الإمامة الإسلامیة. لم یکن ذلک الموطن موطن توزیع غنائم دنیویة ومصالح مادیة وأرباح اقتصادیة وشهوات نفسیة. لقد کان موطن جهاد ومشقة. أوّل من تطوّع هو علی بن الحسین، علی الأکبر. هذا دلیل على وفاء هذا الشاب، وقد أبدى الإمام الحسین مقابل ذلک عظمة روحه فوافق على ذهابه لساحة الحرب بمجرد أن طلب ذلک منه. هذه دروس لنا.. إنها دروس التاریخ الخالدة.. الدروس التی تحتاجها الإنسانیة الیوم وغداً. طالما سادت الأنانیات الإنسانیة على الإنسان ازداد خطر هذا الإنسان بازدیاد قدراته التنفیذیة. طالما هیمنت الأهواء النفسیة على الإنسان، وطالما أراد الإنسان کل شیء لنفسه، سیتفاقم خطره ووحشیته کلما تضاعفت قدراته. ویمکنکم ملاحظة نماذج ذلک فی العالم. میزة الإسلام هی أنه یسمح بصعود سلّم السلطة لمن نجحوا فی بعض هذه الامتحانات على الأقل. الشرط الذی یثبته الإسلام لتولی المسؤولیات، هو الخروج من دائرة الکثیر من هذه الأهواء والرغبات. نحن المسؤولین یجب أن نراقب أنفسنا أکثر من غیرنا. علینا مراقبة أیدینا، وألسنتنا، وأفکارنا، وعیوننا، وأعمالنا أکثر من سوانا. التقوى ضروریة لنا أکثر من الآخرین. إذا هیمن عدم التقوى على أحد ازداد خطره على الإنسانیة بازدیاد قدراته. حین تکون إمکانیة الضغط على أزرار القنابل الذریة بید شخص لا یأبه لأرواح البشریة ولا لحقوق الشعوب، ولا یعد تجنّب الشهوات النفسیة میزة وسجیة حسنة، فسیکون خطیراً على الإنسانیة طبعاً. الذین تتوفر لدیهم الطاقات النوویة والأسلحة الفتاکة فی العالم، علیهم الانتصار على أنفسهم ومشاعرهم والسیطرة علیها، وهذا ما لا نشهده للأسف. هذا ما یدعو إلیه الإسلام، وهذا هو سبب عداء العتاة للإسلام.
من کلمته فی شرائح الشعب المختلفة فی مقر »دوکوهه« بتاریخ 9/2/1381ش (29/3/2002م)