فتح المسلمون تونس سنة 79هـ/698م، وکعادة ما کان یفعله المسلمون الأوائل عند فتح البلاد والأقالیم الجدیدة، کان بناء المسجد أول أعمالهم، لکن المؤرخین اختلفوا حول بانی المسجد الجامع، کما اختلف الرواة حول جذر تسمیته، فمنهم من ذکر أن الفاتحین وجدوا فی مکان الجامع شجرة زیتون منفردة فاستأنسوا بها، وقالوا: إنها لتؤنس هذه الخضراء، وأطلقوا على الجامع الذی بنوه هناک اسم جامع الزیتونة.
عمارة المسجد
بُنی جامع الزیتونة بمواصفات فریدة؛ إذ إنه ظل ولمدة قرون محور اهتمام الخلفاء والأمراء الذین تعاقبوا على تونس، وهو یتمیز ببیت صلاة على شکل مربع غیر منتظم یحتوی على 15 مسبکة و7 بلاطات عریضة، ومساحة بیت الصلاة 1344 مترًا مربعًا، وهی مغطاة بسقوف منبسطة.
ویوجد أمام بیت الصلاة صحن دون أروقة، وهو مسیج بجدران مدعمة فی الرکنین ببرجین، واعتُمد فی بنائه بالأساس على الحجارة مع استعمال الطوب فی بعض المواقع.
ویحتوی مسجد الزیتونة على أجمل ختمة للقرآن الکریم کُتبت فی تونس، وقد تم الانتهاء منها وإهداؤها للمسجد أیام الشیخ تاج الدین البکری فی أواخر القرن 12 للهجرة.
وتوجد بالمسجد کذلک ساعة لضبط أوقات الصلاة حسب الفصول، وکانت فی زمنها من أتقن الصناعات، وأکثرها دقة فی ضبط الوقت.
وتتمیز قبة محرابه بزخارف بالغة الدقة، وهی دون شک تعتبر أنموذجًا فریدًا من نوعه فی العمارة الإسلامیة فی عصورها الأولى.
الجامع الجامعة:
لم یکن المعمار وجمالیته الاستثناء الوحید الذی تمتّع به جامع الزیتونة، بل کان له دور علمی رائد فی العالم العربی والإسلامی؛ إذ اتخذ مفهوم الجامعة الإسلامیة منذ تأسیسه وتثبیت مکانته کمرکز للتدریس، وقد لعب الجامع دورًا طلیعیًّا فی نشر الثقافة العربیة الإسلامیة فی بلاد المغرب.
فقد أدرک أئمة المسجد الرسالة السامیة المنوطة بالمسجد، وبهم کقائمین علیه، فقاموا بدورهم على أکمل وجه، حتى صار المسجد منارة للعلم والتعلیم على غرار المساجد الکبرى فی مختلف أصقاع العالم الإسلامی؛ حیث تلتئم حلقات الدرس حول الآئمة والمشایخ للاستزادة من علوم الدین ومقاصد الشریعة، وبمرور الزمن أخذ التدریس فی جامع الزیتونة یتخذ شکلاً نظامیًّا حتى غدا فی القرن الثامن للهجرة بمثابة المؤسسة الجامعیة التی لها قوانینها ونوامیسها وعاداتها وتقالیدها ومناهجها وإجازاتها، وتشدّ إلیها الرحال من مختلف أنحاء المغرب العربی طلبًا للعلم أو للاستزادة منه، وکأنه جامع الأزهر.
ونتیجة لهذا الأمر تأسست أول مدرسة فکریة بإفریقیة فی رحاب جامع الزیتونة، أشاعت روحًا علمیّة صارمة ومنهجًا حدیثًا فی تتبع المسائل نقدًا وتمحیصًا، ومن أبرز رموز هذه المدرسة
علی بن زیاد مؤسسها، وأسد بن الفرات، والإمام سحنون صاحب المدوّنة التی رتّبت المذهب المالکی وقنّنته.
وکذلک اشتهرت الجامعة الزیتونیة فی العهد الحفصی بالفقیه المفسّر والمحدّث محمد بن عرفة التونسی صاحب المصنّفات العدیدة وابن خلدون المؤرخ ومبتکر علم الاجتماع.
وتخرّج فی جامعة الزیتونة طوال مسیرتها آلاف العلماء والمصلحین الذین عملوا على إصلاح أمّة الإسلام والنهوض بها، کما کانت قاعدة للتحرّر والتحریر من خلال إعداد الزعامات الوطنیة وترسیخ الوعی بالهویة العربیة الإسلامیة، ففیها تخرج المؤرخ ابن خلدون وابن عرفة، والتیجانی وأبو الحسن الشاذلی، وإبراهیم الریاحی وسالم بوحاجب، ومحمد النخلی ومحمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسیر التحریر والتنویر، ومحمد الخضر حسین شیخ جامع الأزهر ومحمد العزیز جعیط، والمصلح الزعیم عبد العزیز الثعالبی وشاعر تونس أبو القاسم الشابی، ومن حلقاته العلمیة برز المصلح الجزائری ابن بادیس، وغیرهم کثیر من النُّخَب التونسیة والمغاربیة والعربیة.
إلا أن الجامع عرف نکسة کبرى عندما دخله الجیس الإسبانی فی عام 1573م فیما یعرف بواقعة الجمعة، واستولوا على مخطوطاته، ونقلوا عددًا منها إلى إسبانیا وإلى مکتبة البابا.
الزیتونة فی عهد الاستعمار
علماء وأئمة الدین لهم دور عظیم فی مواجهة الطغاة، سواء کانوا حکامًا مسلمین أو غزاة کافرین، وهو الأمر الذی لم یغب عن أذهان علماء وأئمة الزیتونة، الذین ساهموا خلال فترة الاستعمار الفرنسی فی المحافظة على الثقافة العربیة الإسلامیة لتونس، وقاوم بصلابة محاولات القضاء على انتماء تونس العربی الإسلامی.
وکان جامع الزیتونة هو المدافع عن اللغة العربیة فی هذه الفترة الحرجة من تاریخ تونس بعد أن فقدت اللغة العربیة کل المدافعین عنها تحت تأثیر وسیطرة الاستعمار، مما جعل الحاکم الفرنسی لتونس یقول: (عندما قدمت إلى تونس وجدت أکثر من عشرین ألف مدافع)، وهو یقصد طلاب العلم فی جامع الزیتونة.