إن كيان هذه الأمة و الفضائل السمحة ، التي تتحلى بها نابعة من تراثنا و من ديننا ، فالقيم الروحية و التقاليد الدينية ، هي التي تحكم حياتنا ، و توجه سلوكنا ، و تكسبنا ما نحن عليه اليوم من تماسك و تعاون ، و توحد في الفكر و العمل ، و قد ظللنا نتوارث ذلك خلفاً عن سلف ، يسلمه الأجداد أمانة للآباء و ينتقل من الآباء للأبناء ، ليتركز مع الزمن ، و يصبح دعامة من دعامات المستقبل المشرق بإذن الله.
و قد ظلت هذه الأمانة باقية على الزمن طوال هذه القرون تغذي أرواحنا ، و تبني شخصياتنا ، و تحافظ على وجودنا ، رغم كل نكبات الدهر و ظروف الفقر و القهر و الطغيان التي تعرضت لها أمتنا في تاريخها الطويل . ظلت هذه الروح حية مشرقة دون رعاية من حاكم أو سند من مؤسسة أو جماعة ، ولكنها كانت تستمد حيويتها و قوتها من إيمان الناس بأنفسهم و بتراثهم ، الذي هو مصدر قوتهم و سبيل بقائهم . و كانت المساجد و خلاوى القرآن الكريم و الزوايا هي مراكز الإشعاع في حياة الناس ، هي التي حفظت للأمة تراثها ، و صانت عقولها و قلوبها من ظلمات الجهل و الخرافة ، و رفعت أميتها في زمان كان الجهل فيه سمة العصر.
إننا أيها الأخوة مدينون لبيوت الله و خلاوى القرآن بكل ما نحن عليه اليوم من صفات ، إذ لولا هذه البقاع الطاهرة التي يشع منها نور العلم على حياتنا ، دون رعاية من حاكم أو عناية من سلطان ، لفقدنا كل تراثنا و انفصلنا عن ماضينا ، و صرنا نهباً للمستعمرين و المتسلطين الذين سعوا و ما يزالون يسعون لتصبح حياتنا صورة من حياتهم مهما بلغت التكاليف.
و ما دامت هذه المراكز الروحية هي سر بقائنا و مصدر عزتنا و كرامتنا ، و إليها يرجع الفضل في المحافظة على ماضينا و رعاية تراثنا ، فإننا نريدها في حاضرنا أن تؤدي رسالتها كما فعلت بالأمس ، و أن تزيد على ذلك بأن تصبح سبيلاً لتطوير حياتنا ، و دفعنا إلى الأمام على هدى و بصيرة ، حتى يكون تقدمنا نابعاً من أصالتنا و من تراثنا ، و حتى يشترك الشعب بكل طبقاته و أفراده في عملية البناء و تعمير المستقبل ، لأنه يحس بالدافع من ضميره و من أعماق أعماقه.
لقد قامت كل هذه المساجد و الخلاوى و الزوايا بعون الناس و بإيمانهم بالرسالة العظيمة التي تؤديها هذه الأماكن في حياتهم ، ولكن ظروف الحياة الحديثة جعلت الكثيرين من الناس ، خاصة من الأجيال الناشئة ينصرفون عن هذه المنابع الروحية ، دون أن يعلموا أن روح أمتهم و سر عظمتها و سبيل بقائها ، يرتكز على الصلة القوية القائمة بين الجماعة و الجامع ، فالجامع لم يسم الجامع إلا لهذه الصلة القوية بينه و بين الجماعة ، لأنه يجمع شتات الناس ، و يوحد ما بينهم حين يجتمعون فيه ، و قد تجردوا من كل شيء إلا الإيمان بالله ، و العمل لصالح الجماعة ، و على هذين الأساسين تقوم التضحية و نكران الذات اللذين هما علامة المواطن الصالح .
فواجبنا اليوم كأمة تسعى إلى تأكيد ذاتها و إبراز وجهها الحضاري المشرق ، أن نربط حياتنا أكثر و أكثر بمصدر القوة و الإيمان في حياتنا و هو المسجد ، و أن نجعل منه مرة أخرى مركز إشعاع في حياتنا مثل ما كان في ماضينا ، و أن نستفيد منه روحياً و ثقافياً و اجتماعياً مثلما نستفيد من كل أوجه النشاط الثقافي الأخرى في حياتنا، ولابد أن نعيد ثقتنا بأنفسنا بعد أن شككنا المستعمِرون في ذلك، ولن نستعيد هذه الثقة بالنفس إلا إذا استعدنا ثقتنا بتراثنا و قدرته على صنع المستقبل ، ولن ننجح في صنع المستقبل إلا إذا اعتنينا بأدوات المستقبل ، و هم أطفالنا و ملأنا أنفسهم بالثقة في ماضي أمتهم ، فينشأون و هم فخورون بتراثهم ، يفكرون فيه و يسعون لتطويره . ولكننا لابد أن نتطور مع الزمن ، و نطور المساجد ، حتى تجاري تطور الزمن ، و حتى يجد فيها أبناؤنا و شبابنا ما يغريهم بالتردد عليها و الاستفادة من إمكانياتها الروحية والاجتماعية.
فلذلك رأينا أن يكون المسجد حلقة وصل بين المدرسة و المنزل ، و ذلك بأن نسعى لأن نجعل من المسجد عبارة عن مجمع لايقتصر دوره على العبادة فحسب ، بل يضم روضة الأطفال حتى يعاد الطفل منذ الصغر على الذهاب للمسجد ، و يضم قاعة الدرس للشباب و الشيب ، و يضم إلى جانب ذلك مختلف أوجه النشاط الاجتماعي و الثقافي ، و بذلك يسهم المسجد في تأكيد القيم التي ننادي بها في مجتمعنا الجديد.