بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في كتابه المجيد :
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ(18) التوبة
يعتبر المسجد أضخم مؤسسة في الإسلام ، فقد كان لهذه المؤسسة دور خطير وكبير في تاريخ الدعوة الإسلامية ولها رسالة مهمة في حياة المسلمين ، فما هو دور المسجد وما هي وظيفته في المجتمع الإسلامي ؟
من المعلوم إن للمسجد وظائف مهمة وأدوارا وأهدافاً كثيرة في الأمة الإسلامية نذكر منها ستة أهداف :
الهدف الأول :
هو مركز العبادة الإسلامية ، فالعبادة في الإسلام لا تتمحور في مكان واحد وإنما الأرض كلها موقع لعبادة الإنسان والحياة كلها مجال واسع لعبادة الإنسان، والإسلام يريد من الإنسان أن يكون عابداً في كل حركة من حركاته وفي كل مجال من مجالات حياته وفي كل موقع من مواقع الأرض والحياة، ولكن للمسجد مركزيته المهمة في مجال العبادة ففي المسجد يشحن الإنسان بالطاقة العبادية، والطاقة العبادية قوة فعالة في حياة الإنسان ، فأضخم طاقة جبارة يجب أن يمتلكها الإنسان هي الطاقة العبادية فإذا امتلكها كان عابداً حقيقة وأصبح إنساناً مستقياً وفاعلاً ومعطياً في الحياة، والإنسان العابد هو الإنسان الحقيقي لأن مفهوم العبادة بمعناه الشمولي في الإسلام هو مفهوم الحركة المرتبطة بالله سبحانه وتعالى، فالعابد هو الإنسان المتحرك من وحي أوامر الله سواءً في المسجد أم في الشارع أم في المكتب أم في كل مكان ، فمتى ما تحرك الإنسان ضمن أوامر الله ومنهجه في كل حركة ومعاملة وفي كل فكرة وعاطفة وأينما كان موقعه وأي كان مجاله وسلوكه فهو إنسان عابد ، وهذا هو مفهوم الإنسان العابد في الإسلام.
إذاً لماذا يعتبر المسجد مركز العبادة في حين أن نظرية الإسلام تجعل الحياة كلها مسرحاً لعبادة الإنسان المسلم ؟ كما ذكرنا إن المسجد هو مركز الضخ العبادي والإنسان المسلم حينما يدخل إلى المسجد يتزود بطاقة ضخمة من العبادة، وطاقة العبادة الحقيقة طاقة إبداعية في حياة الإنسان حتى يستثمر هذه الطاقة من العبادة في حياته وفي حركته في الحياة.وإذا لم يمتلك هذه الطاقة وهو يتحرك في الحياة بعيداً عن خط الله ومنهجه فمعناه أنه حينما يدخل هذا المركز العبادي لم يتزود بطاقة عبادية، فمن المسجد يتزود الإنسان بطاقة العبادة وطاقة الحركة المرتبطة بالله سبحانه وتعالى.
وكلما ذبلت روحية الإنسان يأتي هنا دور المسجد فهو الذي يزوده بالطاقة وبالشحنات العبادية ، فالمسجد هو محطة التزويد بالطاقة العبادية، والصلاة هي منطلق التزويد فإذا لم تكن صلاة الإنسان فاعلة ولم تكن معطية ومغيرة فهناك خلل في عملية استثمار الطاقة العبادية عند الإنسان، ومن هنا كان ضرورة ملحة أن يرتبط الإنسان المسلم بالمسجد ليتزود بالطاقة العبادية العملاقة التي تصنع منه إنساناً ملتزماً مطيعاً متحركاً في اتجاه الله حتى يضمن مسيرته ويضبط حركته في الحياة فالوظيفة الأولى للمسجد هي كونه مركزاً للعبادة الإسلامية.
الهدف الثاني للمسجد في الإسلام:
هو موقع لتجميع المؤمنين. ففي داخل المسجد يتم التلاقي والتفاعل بين المؤمنين وكم لهذا التجمع وهذا التلاقي والتفاعل اليومي في داخل المسجد من عطاء كبير في كيان الأمة والمجتمع وفي كيان المؤمنين فتكرار هذا الارتياد والتلاقي في داخل المسجد وتكرار هذا التجمع الإسلامي يعطي للجماعة المؤمنة قوة ومناعة وما أحوج المؤمنين إلى القوة والوحدة وإلى التلاحم والمسجد هو الذي يحقق هذه الروح الجماعية في الأمة.
وهنا يأتي سؤال: لماذا يؤكد الإسلام كثيراً على حضور المسجد؟
والجواب هو يمكن للإنسان أن يصلي في بيته أو في أي مكان آخر وصلاته تكون صحيحة ولكن ورد هذا التأكيد الكبير على فضيلة الصلاة في المسجد لأن الصلاة في المسجد تزرع الروح الجماعية عند الإنسان المؤمن وتخلق روحاً جماعية في الأمة فالمسلم حينما يلتقي في المسجد في كل يوم بأخوة مؤمنين فهذا اللقاء المتكرر يخلق علاقةً وتلاحماً ويخلق توحداً وقوةً ، فالمسجد يحقق هدفاً ضخماً في حياة الأمة وهذا الهدف الضخم في حياة الأمة هو توحيد الكيان الإسلامي ولذلك يؤكد الإسلام على صلاة الجماعة لأن صلاة الجماعة مظهر من مظاهر الجماعية في الإسلام والإسلام يؤكد دائماً على التحرك الجماعي وعلى التعاون والتشاور وعلى التلاقي ، والروح الجماعية هدف كبير يخلقه الإسلام في كيان المسلمين وفي كيان المؤمنين وصلاة الجماعة تخلق روحاً جماعية عند الأمة بينما يمكن للإنسان أن يصلي صلاة مفردة ولكن ليس فيها عطاء كالعطاء الذي تقدمه الصلاة الجماعية فهو عطاء كبير في حياة الأمة لأن الإسلام لا يريد أن تكون عند المسلمين حركة أنانية وانعزالية وحركة فردية ولا يريد للإنسان أن يتحرك تحركاً فردياً لأن الحركة الفردية في داخل الأمة معول يهدم كيان الأمة ومن هنا أعطى الإسلام لصلاة الجماعة قيمة ضخمة جداً لا تعادلها قيمة لأنها وسيلة من وسائل بناء الكيان الإسلامي وخلق التجمع والتلاحم الإسلامي :
(من مشى إلى مسجد يطلب فيه الجماعة كان له بكل خطوة يخطوها سبعون ألف حسنة ورفع الله له سبعين ألف درجة وإذا مات كذلك _ يعنى إذا مات وهو يغدو ويروح على صلاة الجماعة _ بعث الله سبعين ألف ملك يعودونه في قبره ويؤنسون وحشته ويبشرونه بالجنة ويدعون له إلى أن يبعث)
وهذا الحديث يدل على الاهتمام الضخم من قبل الإسلام بصلاة الجماعة فضخامة العطاء تتناسب مع ضخامة الوسيلة ومع ضخامة المظهر والهدف فهذه قيمة صلاة الجماعة لأنها وسيلة من وسائل البناء الجماعي في الأمة والإسلام يريد أن يخلق الوحدة والتلاحم والتفاعل لأن أي لون من ألون التصدع في الكيان الإسلامي ظاهرة نشاز يرفضها الإسلام .
وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:(وإذا زادوا _ أي إذا زاد عدد المصلين في صلاة الجماعة _ فلو كان البحار مداداً والأشجار أقلاماً والثقلان والملائكة كتاباً ما استطاعوا أن يكتبوا ثواب ركعة واحدة من صلاة الجماعة)
هكذا أعطى الإسلام قيمة للتجمع وللتلاحم وللوحدة ولذلك كان المسجد وسيلة ومركزا للتجمع فهو مؤسسة ضخمة ومهمة جداً وهذا التجمع والتلاحم في المسجد له آثار منها:
- أولاً:
هو خلق روح المحبة والأخوة بين المؤمنين فحينما يلتقي المؤمن يومياً بأخوته المؤمنين فستتعمق أواصر العلاقة بينه وبين إخوانه المؤمنين وستخلق قلوب متصافية ومتلاحمة ومتوادة. - ثانياً:
هذا اللقاء اليومي يفرغ من القلوب الضغن والحسد والشحناء والبغضاء لأن اللقاء اليومي وفي رحاب الله لاشك أنه يفرغ كثيراً مما في النفوس من أضغان وبغضاء وحسد لأنه يتم في بيت من بيوت الله لأن المسجد بيت من بيوت الله والصلاة عبادة من عبادات الله التي يتقرب بها الإنسان إلى الله فهذا اللقاء وهذا التجمع وسيلة أيضاً لتفريغ البغضاء والشحناء من النفوس ومن القلوب.ومن خلال تواجد المؤمنين في المسجد أيضاً تتنامى روح التكافل الاجتماعي فيكون لون من التحسس لقضايا الناس وتحسس بقضايا المعوزين والفقراء ولمشاكل الضعفاء والبؤساء ففي المسجد تنمو عند الإنسان روح التكافل الاجتماعي (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) والإسلام يؤكد كثيرا على التكافل الاجتماعي (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تدعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
وهكذا يجب أن تعيش الجماعة المؤمنة في الكيان الإسلامي روح التلاحم والتواد (يدخل أبو إسماعيل وهو أحد أصحاب الإمام الباقر عليه السلام يقول له:سيدي جعلت فداك أن الشعية عندنا كثير ألتفت إليه الإمام الباقر عليه السلام قال له:هل يعطف الغني على الفقير ويتجاوز المحسن عن المسيء ويتواصون قال لا،قال:هؤلاء ليس بشيعة الشيعة الذين يعطف غنيهم على فقيرهم ويتجاوز محسنهم عن مسيئهم ) وبينهم تواسي وتواصل وتلاحم واتحاد وتواد، فالمسجد يخلق هذه الروح عند الأمة وعند الناس المؤمنين. - ثالثا:
المسجد مدرسة للتربية الروحية والأخلاقية.ولا شك أن حركة الإنسان المادية في هذه الحياة تضغط على الكثير من الروحية والأخلاقية عند الإنسان ولذا فهو بحاجة إلى شحن روحي فحينما يدخل للمسجد يشحن روحيا لأنه مركز للشحن الروحي وللإشعاع الأخلاقي الروحي لذلك الإنسان لما يدخل إلى المسجد يحس بروحيته تتنامى وتتصاعد، وتنمو قابليته وأخلاقيته من خلال توافده على هذه المؤسسة الإسلامية التي تسمى المسجد التي تربي الروح عند الإنسان ثم إنه يحس بانفتاح روحي ويحس بقرب من الله سبحانه وتعالى هذا الانفتاح الروحي وهذا الاتجاه إلى الله والقرب منه وسيلة من وسائل تربية الروح عند الإنسان المؤمن لذلك المسجد منطلق لتربية الروح وما أحوج المسلمين في مثل هذا الزمان الذي طغت فيه المادة إلى تربية أرواحهم لأن الحياة اليوم حياة مادية قاسية فأينما يتحرك الإنسان يتحرك في أجواء مادية وفي أوضاع ضاغطة على روحيته فهو بحاجة إلى أن يأتي إلى هذه المراكز العبادية حتى يشحن روحياً وإلا إذا انفصل عن هذه المراكز العبادية فستطغى عليه الروح المادية ويسيطر عليه الوضع المادي إلى أن تنفصل روحه وتهبط فالمؤمن بحاجة لأن يكون متصلاً دائماً بالمسجد يغدو ويروح لأن الذي يرواد المسجد باستمرار والذي كلما خرج من المسجد تعلق قلبه به هذا سيكون من السبعة (الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله)
فوجود الإنسان في المسجد إذاً هو تربية للروح من خلال الصلاة والدعاء وقراءة القرآن ومن خلال الوعظ والإرشاد وهذه كلها وسائل تنمي روحية الإنسان وأخلاقيته فالمسجد إذاً وسيلة مهمة من وسائل التربية الروحية والأخلاقية ومن وسائل التربية التهذيبية للناس.
الهدف الرابع:
المسجد مدرسة للتثقيف الفكري فيعتبر أضخم جامعة إسلامية وفكرية فقد أخرج فطاحل من العلماء والأدباء والمفكرين والمثقفين وتاريخ الحركة العلمية والثقافية مدينة للمسجد لأنه كان ولا يزال عبر تاريخ المسلمين مركز إشعاع فكري وثقافي وعلمي فالحوزات الدينية والجامعات العلمية تأسست في رحاب المساجد الإسلامية والعلماء الكبار والمثقفون والدارسون والباحثون والكتاب والمفكرون تخرجوا من داخل المسجد فالمسجد يجب أن يؤدي هذا الدور الرسالي وهذا الدور العلمي ويكون مركزاً للإشعاع العلمي وليس مبنى يأتي الإنسان يصلي فيه ويخرج فقط بل يجب أن يكون مدرسة يتعلم من خلالها الإنسان أحكام الإسلام وتاريخه وثقافته وعلومه ويتعلم تفسير القرآن والأحاديث فهذه كلها يجب أن يتعلمها الإنسان في المسجد فهو المركز العلمي ومركز الإشعاع الفكري الذي يشع على حياة المسلمين نوراً وعلماً فالمسجد إذاً مركز للتثقيف والتعليم في الإسلام .
الهدف الخامس:
المسجد منطلق لتصحيح ومعالجة الأوضاع الفاسدة في المجتمع ولاشك أن المجتمعات مشحونة بظواهر فاسدة وبظواهر منحرفة وأئمة المساجد والعلماء مسئولون عن معالجة قضايا الناس ومشاكلهم ومعالجة القضايا الاجتماعية ويحذرون الناس عن الانحرافات ويحذرون الأمة من كل ظاهرة فاسدة في المجتمع ومن كل سلوك منحرف فيه،فالمسجد هو مؤسسة لتصحيح الأوضاع المنحرفة ويجب أن يرسل إشعاعات الإسلام لتصحيح الوضع الفاسد في المجتمع حتى يؤدي دوره الرسالي في تربية الأمة وفي صياغة الأمة صياغة إسلامية متكاملة.
الهدف السادس:
المسجد مركز يخلق التلاحم بين الأمة وبين العلماء.وتلاحم الناس مع القيادة الدينية ومع العلماء خط أساسي في نمو الأمة وتطورها وتكاملها فإذا انفصلت الأمة عن قياداتها الدينية وعن العلماء تتيه وتنحرف وتتلاعب بها القيادات المنحرفة والشخصيات المنحرفة وما أحوج الأمة إلى أن تتلاحم مع القيادات الدينية والمجتمع مع علمائه وقادته الفكريين وفي المسجد يخلق هذا التلاحم،فالذين يرتادون المساجد يخلق بينهم وبين العلماء تلاحم وتآزر وارتباط ومن هنا تبرز أهمية المسجد في الإسلام وضرورة وأهمية تواجد الإنسان في المسجد وباستمرار وأما تواجده في يوم الجمعة فقط فهذه ظاهرة خطيرة جداً وظاهرة مرضية أن الإنسان يفرغ نفسه للمسجد في يوم واحد من الأسبوع فقط نعم يمكن لبعض الموظفين الذين لا يسعهم الصلاة ظهراً أو صباحاً يسعهم الصلاة بالليل فعلى الإنسان أن يكون مرتبطا بالمسجد دائما كلما سنحت له الفرصة بل يجب أن يخلق فرصاً للارتباط بالمسجد ولا يجعل لظروفه الاجتماعية والمعاشية قدرة على أن تسيطر عليه وتفصله عن المسجد.
نعم الارتباط بالمسجد في يوم الجمعة ظاهرة طيبة لكن أن يرتبط الإنسان بالمسجد فقط يوم الجمعة فهذا شيء ليس مقبولاً إطلاقاً بل يجب أن يعتبر الإنسان المسلم هذه المؤسسة هي منطلقه ولابد من تواجد الكبار والشباب والأولاد والنساء وأن يكون هذا التواجد باستمرار لأنه كما ذكر أن المسجد وسيلة تربوية ووسيلة بناء،ومواكبة الإنسان لعلاقته بالمسجد تزوده باستمرار بالعطاء والتربية وبالتوجيه والروحية،فما أحوج الناس في هذا اليوم إلى أن يلتحموا بهذا المؤسسة وباستمرار.
ولكثرة هذه الأدوار والوظائف التي يؤديها المسجد كان الثواب عظيماً في قصد المسجد والصلاة فيه فلا توجد نسبة أبداً بين الصلاة في البيت والصلاة في المسجد،فأعطي هذا الثواب الضخم للصلاة في المسجد ؟ لأنه مركز مهم ومؤسسة خطيرة في حياة الإنسان المسلم فلا يجب أن ينفصل عنها فإذاً هناك حاجة ملحة لأن يرتبط ويتلاحم المؤمنون بالمسجد لأن المسجد هو مؤسسة الإسلام التي صنعت هذه المسار وهو منطلق الدعوة الإسلامية ومنطلق البناء الإسلامي ومركز العبادة الإسلامية وإذا تلاحم الإنسان مع المسجد ولم ينفصل عنه سيكون من الذين : (يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله يوم القيامة).
فليجعل المؤمن نفسه من هؤلاء السبعة عبر تفاعله مع المسجد وحينما يصبح قلبه متعلقاً بالمسجد دائما،نسأل الله أن يوفقنا أن نكون من رواد المساجد ومن الذين يعمرون المساجد حقيقة ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ) فهذا العمران الحقيقي للمسجد وهو أن نخرج من المسجد ونحن متزودون بطاقة الإيمان والعبادة وطاقة الورع والتقوى والحمد لله رب العالمين .