مفهوم الوحدة في الفكر الإسلامي
بسم اللّه وباللّه وعلى ملّة رسول اللّه والصّلاة والسّلام عليه وآله.
أما بعد.. الوحدة وتأليف القلوب من أبرز ألطاف اللّه تعالى بمخلوقاته. فقد اقتضت حكمته أن يقوّم كلّ شيء بالوحدة. فبدونها لا يقوم للشيء قائم ابتداء من المنظومة الكونيّة الواسعة وإنتهاء بالطبيعة والإنسان. فالكون متحد بما فيه الأجرام والنجوم والكواكب نظمت قوانينه على أساس الوحدة والوئام والانسجام والوفاق بين جميع الفعاليات الكونية. وإذا خرج جزء منه من دائرة الوحدة يختل النظام ويؤثر على الأجزاء الأخرى. فالوحدة الكونية تُعدّ من آلاء اللّه تعالى وعظمته المجموعة البشرية على وجه الأرض ليست بدعاً من خلق اللّه وحكمته إنما تجري عليها حكمة الباري عزّ وجلّ كجريها على المنظومة الكونية الواسعة. الفارق بينهما هو أنّ الوحدة في المنظومة الكونية تكوينية بمعنىً قُدّر للكون أن ينتظم على أساس الوحدة وليس له إرادة في ذلك. أمّا في المجموعة البشرية فتحقيق الوحدة من مسؤولياتها. وذلك يتم عبر الاعتصام بحبل اللّه، قال تعالى : "واعتصموا بحبلِ اللّهِ جميعاً ولا تفرَّقوا واذكُروا نعمةَ اللّهِ عليكُم إذ كُنتُم أعداءً فأ لَّف بينَ قلوبِكُم فأصْبَحتُم بنعمتِهِ إخواناً وكُنتُم على شَفا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فأنقذكُم مِنها " (آل عمران : 103).
وتوحيد العقيدة والقانون والرؤى والممارسات والمواقف تبعاً للتوحيد في اللّه والارتباط به. وعلى هذا الأساس دعى القرآن المؤمنين باللّه من جميع الأديان إلى كلمة سواء "قل يا أهلَ الكتابِ تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكُم أَ لاّ نعبدُ إلاّ اللّهَ ولا نشركُ بهِ شيئاً ولا يتّخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دونِ اللّهِ " (آل عمران : 64)،
هذه الوحدة مطلوبة على مستوى الأديان المؤمنة باللّه الواحد والخالق الواهب للحياة. فالإنسانية المؤمنة باللّه الواحد الأحد لا يتكامل ولا يرتقي سلّم الكمال ولا ينال سعادتها إلاّ بالاحترام بالوحدة. فإذا خرج جزء من المجموعة الإنسانية المؤمنة من دائرة الوحدة يختل النظام ويتزعزع الأمن والسلم الإنساني.
فكرة الوحدة عند الإمام علي (ع)
لاحظ الإسلام في موضوع الوحدة الحالة الإنسانية حيث يعطي للإنسان مكانته وكرامته بغضّ النظر عن دينه وعقيدته. حيث أشار الإمام علي (ع) إلى ذلك عندما قال: "النّاس امّا أخٌ لك في الدّين، أو نظيرٌ لك في الخلقِ" حيث يروي لنا التاريخ عن غضب الإمام علي (ع) انتصاراً لرجل تركه المسلمون بعد أن عجز عن العمل فقال لهم انه خدمكم في شبابه وتتركونه في شيخوخته، فأمر أن يُعطى له من بيت المال. وإذا كانت المدرسة الغربية قد اكتشفت في هذا العصر نظرية حقوق الإنسان.
فالإسلام أمّر بالحقوق الإنسانية قبل أربعة عشر قرناً. فلو قُدّر للإمام علي (ع) أن يحكم البشرية بعمره المبارك لوحّدها بعدله، لحكمه على كلّ قوم بكتابه كما قال هو (ع)
الوحدة بين المؤمنين
الوحدة بين المؤمنين بالعقيدة والمسيرة الواحدة هي أكثر القضايا ضرورة. ومن السذاجة أن نتصور جماعة إسلامية معينة بأنها تستطيع أن تحقق أهداف الرسالة والأمة بمفردها لأن ذلك يعني الغرور والعلو وتحقير الجهود الأخرى وقطع الطريق لمشاركة الفصائل الأخرى وتهميش دورها ومصادرة حقوقها وبالتالي خلق أجواء للتناحر الداخلي والتنافس على المواقع بدلاً من الخير والجهاد. والتجربة أثبتت أنّ الضعفاء والحقراء هم الذين يتحصنون بالعلو والاستبداد الشعور بالأفضلية يمنع الوحدة.
قد يبتلى فصيل بالأمراض التي تمنعه من المساهمة في صنع الوحدة بين أبناء الأمة الواحدة. وهذه الأمراض كثيرة من أهمها الشعور بالأفضلية فقد يبتلى فصيل في ساحتنا الجهادية بهذا المرض، ويعتقد بأنه يمثل الحقّ المطلق دون غيره وبأنه صاحب الاستحكامات الجهادية والسياسية، إنّ هذه الآفة هي مصدر الغرور والاستكبار والاستبداد وتحقير الآخرين. والتجربة التاريخية والمعاصرة أثبتت عكس ذلك. فمسيرة الأمة تتكامل وترتفع إلى مستوى مسؤولياتها عبر التآلف والوحدة والتلاحم والانسجام وتوظيف التجارب المختلفة من العمل الإسلامي وصولاً إلى أفضل صبغة للعمل المشترك، فكل جهد وعمل يضاف إلى المسيرة الإسلامية إنما يغنيها ويقربها من الأهداف الإسلامية. فلا تستغني مسيرة الإسلام عن أضعف جهد وعمل. كان الأئمة يستشيرون أبسط أصحابهم، ويُنقل عن الإمام الرضا (ع) أنه استشار غلامه بعد استشارة أصحابه، فقالوا هذا غلامك، فقال قد يجري اللّه على لسانه الخير. فبذلك جسّد الإمام هذه الحقيقة قولاً وعملاً.
ولعلّ ساحة الوحدة من أهم ساحات الامتحان الإلهي. والتاريخ نقل لنا أنّ بعض أصحاب الرسول (ص) المؤمنين الصادقين تنازلوا عن امتيازاتهم من أجل الوحدة الإسلامية التي تخدم هدف الجميع لأن المؤمن يسعى دائماً أن يحقق رضى اللّه والانتصار لعقيدته وأئمة الهدى كانوا دائماً في مقدمة المبادرين والمسارعين في أمر الحفاظ على الإسلام.
الإمام عليّ (ع) وامتحان الوحدة
مارس الإمام عليّ (ع) سياسة المعارضة الشديدة للنظام الذي غصب حقّه في خلافة الرسول (ص) ولم يبايع الخليفة إلاّ عندما أحسّ بالخطر يُداهم كيان الإسلام فاستسلم للوضع القائم حفاظاً على الإسلام حيث يشير الإمام عليّ (ع) بنفسه إلى هذه القضية قائلاً فخشيت إن أنا لم اُنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه هدماً أو ثلماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت وِلايتكم هذه التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما يزول كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب.
الاختلافات مصيدة الشيطان إنّ اختلاف القلوب يسبب الهوى والتنافس على حطام الدنيا وهي مصيدة كبيرة من مصائد الشيطان فالاختلافات تؤدي إلى أن يبتلي المؤمنون بالغيبة واللغو والكذب والنميمة والبهتان وكشف العيوب التي سترها اللّه بحكمته وبتسقيط المؤمنين وهتك حرمتهم التي هي أعظم عند اللّه من حرمة الكعبة وبيت الحرام حسب ما جاء في الروايات المروية عن المعصومين (ع).
الوحدة وأُمنياتنا
الوحدة لا تتحقق بالشعارات والأُمنيات وإنّما تتحقق بأن يؤمن الجميع انّ الوحدة هي قدرنا وفي ظلها تتحقق الأمة أهدافها وتبلغ غاياتها وإذا حققت الأمة الوحدة في حياتها تقترب من اللّه ومن نُصرته وتأييده وتسديده، فبدون الاذعان بأهمية الوحدة والإيثار والتضحية تبقى شعارات الوحدة مثيرة للاستهزاء. وتبقى الجهود التي يبذلها المخلصون مسحوقة تحت عجلة التناحر والتنافس على حطام الدنيا الزائلة، وتضيع عندئذ قضية أمة مظلومة فتذهب جهودها وجهادها وتضحيات شهداءها الأبرار من القادة والعلماء المجاهدين ادراج الرياح.
المسلمون في صدر الإسلام اعتصموا بحبل اللّه فأ لّف اللّه بين قلوبهم بعد أن كانوا أعداء فالتفّوا حول الرسول وجاهدوا فأنزل اللّه عليهم النصر. وعندما تركوا العمل بوصيته (ص) تسلّط عليهم الطواغيت، فالتاريخ لنا عبرة وأهمية نابعة من الإستفادة منه وإلاّ فالسرد التاريخي يبقى مضيعة للوقت، إذن فالوحدة تتحقق بالإيمان باللّه وبالإخلاص له وبالتعالي والترفع عن حطام الدنيا وبالإيثار والشعور بالمسؤولية أمام اللّه وبعدم الغفلة عن أمة تنتظر الخلاص من الظلم والاضطهاد.
وفي الختام: لافتة شعر من الشاعر أحمد مطر حول فلسطين :
هرم الناس وكانوا يرضعون
عندما قال المغنيّ عائدون
يا فلسطين ومازال المغني يتغنى
وملايين اللحون
في فضاء الجرح تفنى
واليتامى من يتامى يولدون
يا فلسطين
وأرباب النضال المدمنون
ساءهم ما يشهدون
فمضوا يستنكرون
يخوضون النضالات على هزّ القناني
وعلى هزّ البطون
عائدون
ولقد عاد الأسى للمرة الألف
فلا عُدنا
ولا ممّ يحزنون
وما توفيقي إلاّ عليه توكلت وإليه أُنيب وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلّم تسليماً كثيراً.