قال تعالى: {أفمن يهدي إلى الحق أحقّ أن يتبع أم من لا يُهدي إلاّ أن يهدى فمالكم كيف تحكمون}. (يونس:35). وقال أمير المؤمنين (ع): "أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه". (نهج البلاغة، الخطبة 171).
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.
وبعد... فإن مسألة "ولاية الفقيه" والتعريف بأبعادها وحدودها، أصبحت من أهم المسائل التي تدور عليها رحى العصر؛ إنها مسألة مصيرية للأمة المنتفضة بعد طول العهد، وإنها خطة قيادية وضعها الإسلام منذ أن بزغت مطالعه في ربوع الجزيرة، وإنها النقطة المركزية "حبل الله المتين" التي يجب الالتفاف حولها والتمسك بعروتها الوثيقة، إنها جامعة كلمة المسلمين ولامّة شعثهم، والوسيلة الكبرى لإعادة شاردتهم وإقامة أودهم والاتجاه بهم نحو السعادة في الحياة.
هذا ولاسيما بعد تلك الانتفاضة الكبرى التي قامت بها أمتنا المجيدة في المنطقة، تحت قيادة إمامها الكبير الخميني العظيم (دام ظله) الذي برهن للملأ كفاءته وجدارته في قيادة أمة بكاملها. وقد أعاد إلى الإسلام رواءه الأصيل، ومجده وكرامته التي كانت على عهده الأول صافية ضافية.
وهي مسألة خطيرة بحث عنها الفقهاء في مختلف المجالات، وأخذوا فيها بالرد والنقاش الحر، لخصناها في فصول الرسالة الحاضرة، ولعلها خدمة متواضعة يتلقاها الزملاء الأعزاء، بحسن النظر وغض البصر، إذ من كتب فقد استهدف، ومن ثم فمن الله المستعان وهو الموفق للصواب.
قم ـ محمد هادي معرفة
ربيع الأغر 1402
وظائف الفقيه ومراتب ولايته
ذكروا للفقيه الجامع للشرائط وظائف ثلاث(1):
1ـ الإفتاء: وهو بيان الحكم الشرعي المرتبط بوظيفة المكلفين، وفق استنباطه من أدلته المعهودة.
2ـ القضاء: وهو الحكم لفصل الخصومات وحل الاختلافات وما شاكلها من مصالح عامة.
3ـ الولاية: وهي تولية شؤون الأمة في جميع جهاتها الإدارية والاجتماعية والسياسية، الداخلية والخارجية، التي يجمعها قولهم: "إدارة البلاد وسياسة العباد".
أما مسألة الإفتاء، فمتفق عليها بين الفقهاء، سوى لفيف من أهل الظاهر، لشبهات عرضت لهم، وكان منشؤها قلة الإمعان والتدبر في نصوص الكتاب والسنة، وكانت مناقشاتهم في الأغلب تعود لفظية.
وأما القضاء فمتفق عليه أيضاً، سوى أن المخالف أنكر ثبوته بعنوان المنصب، فلم يجوّز له التصرف في أموال القصر وتولية الأوقاف بسمة ولايته على ذلك، بل بسبب كونه القدر المتيقن ممن يجب عليه القيام بأمرها.
ومن ثم فإن القيّم الذي نصبه والمتولي الذي عيّنه ينعزل بموت الفقيه، لأنها كانت وكالة ـ والوكيل ينعزل بموت الموكل ـ الأمر الذي لم يكن ينعزل لو كانت من باب الولاية.
وأما مسألة الولاية، فهي التي أصبحت مورد بحثنا في هذه الرسالة، وكانت هي مورد اتفاق الفقهاء فيما سلف حتى عصر صاحب الجواهر حيث بدت بعده وساوس المتشككين، وراق لبعضهم إنكارها رأساً، إنكار أمر كان قد أحكمه أساطين المذهب، حسب تعبيره (قدس سره)(2).
وقد فرض المحقق النائيني (قدس سره) من الولاية ثلاث مراتب:
أولاها ـ وهي المرتبة العليا ـ مختصة بالنبي والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وهي الولاية على الأموال والأنفس، التي جاءت الإشارة إليها في الآية الكريمة: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}(3).
وهذه المرتبة من الولاية غير قابلة للتفويض والانتقال إلى غير المعصوم.
وثانيتها: ولاية إدارة نظم البلاد وانتظام شؤون العباد، الخاصة بولاة الأمر، وهي قابلة للتفويض إلى من له أهلية ذلك، إلاّ أنه ـ بحسب رأيه ـ لم يثبت تفويضها إلى الفقيه في عصر الغيبة.
وثالثتها: ولاية ما يرجع إلى شؤون القضاء، فقال بثبوتها للفقيه في عصر الغيبة.
وهذه قد أنكرها سيدنا الأستاذ الخوئي (دام ظله) أيضاً، فلم يقل بثبوت ولاية للفقيه إطلاقاً.
وسوف نتعرض لهذه الآراء تفصيلاً ونستوضح أدلتها نفياً وإثباتاً بما يكشف لنا الطريق إلى اختيار الأرجح.
ولكن قبل الخوض في صلب البحث، ينبغي تمهيد مقدمات ربما تسهل علينا الوقوف على حقيقة الأمر في المسألة، وبالله التوفيق.
المقدمة الأولى
الإسلام دين جامع وكافل لجميع أبعاد الحياة
لعله من الضروري ـ عند من درس الإسلام ولمس جوانبه التشريعية الغنية ـ أنه دين جامع وشامل لكل جوانب الحياة: الإدارية والاجتماعية والسياسية. برامجه العريقة تشمل شؤون الفرد والمجتمع من عبادات ومعاملات وانتظامات.
المعروف عن الدين الإسلامي ـ لدى المحققين ـ أنه لم يترك شيئاً يمس حياة الإنسان في حاضره ومستقبله إلاّ وتعرض له، وجعل له برنامج يسير عليه الإنسان، إذا أراد الاستقامة في الحياة، حتى الأرش في الخدش.
الإسلام دين الكمال ودين التمام ومن ثم فهو دين الخلود:
1ـ قال الإمام محمد بن الباقر (ع): "إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة، إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله (ص)، وجعل لكل شيء حدّاً وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً".
2ـ وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): "إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى (والله) ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن(4) إلاّ وقد أنزل الله فيه".
3ـ وقال (ع): "ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلاّ وله حدّ كحدّ الدار؛ فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار، حتى أرش الخدش فما سواه، والجلدة ونصف الجلدة".
4ـ وقال: "ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنة".
5ـ وقال: "ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله عز وجل، ولكن لا تبلغه عقول الرجال"(5).
والروايات معتبرة الأسناد وفق ما أثبته الكليني (قدس سره) في الكافي الشريف، والرابعة صحيحة حسب مصطلحهم.
قوله ـ في الرواية رقم 1 ـ "جعل لكل شيء حدّاً" أي برنامجاً ودستوراً.
وقوله "وجعل عليه دليلاً" أي بيّنه واضحة حتى لا تبقى الأمة في غموض أو شك من أمرها.
وقوله ـ في الرواية رقم 2 ـ "ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد" أصرح في الشمول والإطلاق.
وقوله ـ في الرواية رقم 3 ـ "حلالاً وحراماً..." أي ما من شيء يجابهه الإنسان في حياته وإلاّ وله حكم، حلالاً أو حراماً، وله برنامج و دستور سماوي جامع ومانع يشمل كل جوانب الأمر بدقة فائقة. وهذا يعني التفصيل والتدقيق في برامجه الأصلية الشاملة لكل جوانب الحياة.
وقوله ـ في الرواية رقم 5 ـ "ولكن لا تبلغه عقول الرجال" لعله إشارة إلى مسألة: "عجز العقول عن إدراك حقائق التشريع"؛ فإن للتشريع أصولاً مثبتة في الكتاب والسنة، تبتنى عليها فروع متصاعدة حسب حاجة الإنسان في مزاولة حياته في مختلف الأبعاد. وتلك الأصول لابدّ من أخذها من شريعة السماء. أما العقل فهو أعجز عن دركها لولا التشريع الإلهي {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً}(6).
{الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}(7).
المقدمة الثانية
الإسلام دين الخلود، ويشمل كل العصور
من الضروري أن دين الإسلام دين الخلود؛ الإسلام جاء ببرنامج الحياة وجعله في ذمة البقاء مع الأبدية، الإسلام خاتمة الأديان السماوية؛ فهو دين الكمال والبقاء، الصالح لإسعاد البشرية في جميع الأعصار والأدوار، مهما تطورت الحياة وتنوعت وسائل المعيشة، وهذا هو مفهوم الخاتمية والكمال؛ فلا شريعة بعد الإسلام، ولا قوانين أكمل من قوانين الإسلام أبدياً.
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}(8).
{ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}(9).
فقد بطلت شريعة النسخ بكمال هذا الدين وتمام هذه النعمة الباقية، ولم تقبل شريعة خارج شريعة الإسلام أبدياً.
قال الإمام الصادق (ع): "حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة؛ لا يكون غيره ولا يجيء غيره"(10).
{وتمّت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلماته}(11).
{لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم}(12).
المقدمة الثالثة
الإسلام نظام ذو مسؤولية قائمة في كل زمان
الإسلام أتى ببرنامج الحياة السعيدة جامعة كاملة وكافلة بإسعاد البشرية في جميع أبعاد حياتها مادية ومعنوية؛ فالإسلام نظام للحياة السعيدة، لكنه نظام ذو مسؤولية محدودة، قد تعيَّن فيه مسؤول تفسيره وبيانه، مسؤول بثّه وإعلامه، مسؤول تنفيذه وإجرائه، مسؤول حفظه وحراسته عن الضياع والإهمال والدفاع عن تناوش الأعداء.
فالإسلام ذو نظام عام، ونظامه ذو مسؤولية محدودة، مسؤولية البيان والإعلام والتنفيذ والحراسة، إنها مسؤوليات قد عيّنها الإسلام وعيّن حدودها وأبعادها واتجاهاتها، فلم يترك نظامه سدى، ولا أطلق مسؤوليته هملاً، لأن المسؤولية المطلقة هي بعينها الفوضوية وسيادة الهرج والمرج في البلاد؛ وهو نقض للغرض ومضادة عارمة للنظم والانتظام.
ليس من المعقول أن يأتي الإسلام بنظام ولا يعيّن مسؤول بيانه وإجرائه؛ كما ليس من المعقول أن يترك المسؤولية مطلقة، لتكون الأمة هي بذاتها تتبنى تفسير بنود النظام، وتتعهد النشر والإعلام، وتتكفل التنفيذ والإجراء.
هذا غير معقول، لأن ذلك هو النقطة الأولى لإثارة الفتنة بين الأمة وتفاقم الاختلاف؛ لأن كل أحد يجر النار إلى قرصه، فينفسح المجال لذوي الإطماع.
قال تعالى: {...ولا يزالون مختلفين * إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم...}(13).
قال أمير المؤمنين (ع): "فرض الله الإمامة نظاماً للأمة".
قال ابن أبي الحديد في شرح هذا الكلام: "لأن الخلق لا يرتفع عنهم الهرج والعسف والظلم إلاّ بوازع قوي، وليس يكفي في ردعهم تقبيح القبيح ولا وعيد الآخرة، بل لابدّ من سلطان قاهر ينظم مصالحهم ويردع ظالمهم و يأخذ على أيدي سفهائهم"(14).
وقال الإمام الرضا (ع): "فإن قال: لم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة:
منها: أن الخلق لما وقفوا على حدّ محدود وأمروا أن لا يتعدّوا ذلك الحدّ، لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلاّ بأن يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم؛ لأنه إن لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره. فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام"(15).
نعم كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، وهذا يعني الإطلاق في المسؤولية، بل لكل أحد مسؤوليته في إطارها الخاص، فابتداءً كل أحد هو مسؤول نفسه: {عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم}(16).
وتتسع المسؤولية في الحياة العائلية {يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً}(17).
وهكذا تتوزع المسؤولية حسب تنوع المقامات الاجتماعية من أدنى إلى أعلى، الأمر الذي يحقق النظام القائم على أساس العدل.
هذا هو مفهوم النظام الذي رسمه لنا الإسلام.
وعليه فنتساءل: هل الإسلام الذي أتى ببرنامج الحياة كاملة أبدية، هل عيّن مسؤولين عن نظامه هذا العريض؟ أم ترك المسلمين لا مسؤول عنهم ولا عن النظام الذي يحكم فيهم؟!
لاشك أن الجواب مع الإثبات، إذ الإهمال يتنافى مع حكمة الباري عزّ اسمه.
ثم فنتساءل: هل كان ذلك مقصوراً على فترة من الزمن كعهد حضور الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، أم يعم جميع الأعصر والأدوار حتى عصر الغيبة والانتظار؟.
لاشك أن الجواب أيضاً مع الإثبات، لأن الدليل العقلي لا يقبل الاختصاص؛ فالعقل الذي يحكم بلزوم وجود مسؤولين عن النظام في العهد الأول، هو الذي يحكم بضرورة وجودهم في سائر العصور.
قال الإمام الصادق (ع): "إن الأرض لا تخلو إلاّ وفيها إمام، كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردّهم وإن نقصوا شيئاً أتمّه لهم".
السند الصحيح. وقوله "ردّهم" دليل على ضرورة بسط يده في إدارة شؤون المسلمين.
وقال: "ما زالت الأرض إلاّ ولله فيها الحجة؛ يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله". وقوله "يدعو..." دليل على قيامه بالدعوة، لا مجرد بيان الأحكام.
وقال: "إن الله لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لم يعرف الحق من الباطل"(18).
وقال: "إن الله أجل وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل".
وعن أمير المؤمنين (ع) قال: "اللهم إنك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك"(19).
وقال النبي (ص): "يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد"(20).
هذا الحديث رواه الكشي بسنده المعتبر عن الإمام الصادق (ع) عن النبي (ص). وقوله "يحمل" دليل على قيامه بأمر الدين، وضرب المناوئين ضرباً قاضياً كتأثير النار في إزالة خبث الحديد.
وخلاصة هذه المقدمات، أن الإسلام هو برنامج الحياة في كافة الشؤون الفردية والاجتماعية من عبادات ومعاملات وانتظامات، وأنه دين الخلود والأبدية ليس مقصوراً على فترة من الزمن، بل إن أنظمته مستمرة عبر القرون والأعصار، وإنه نظام ذو مسؤولية قائمة، حفظاً على سلامته، ووقوفاً دون تحكّم الفوضى في جامعة المسلمين.
المقدمة الرابعة
في ولاية النبي والأئمة (عليهم السلام)
قال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}(21).
والمقصود من الأولوية بالأنفس: الأولى بالتصرف في مطلق شؤون المؤمنين الخاصة والعامة. فتصميمه (ص) في أي شأن من شؤون المسلمين، أحق بالمراعاة من تصميمهم أنفسهم.
نعم كان (ص) مأموراً بمشاورتهم في الأمور، أما الاختيار النهائي والبت في الأمر فقد كان إليه (ص): {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}(22)، ومن ثم قال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً}(23). فليس للمسلمين الخيرة من أمرهم بعد حكم الرسول (ص)، ومن ثم فإن في مخالفته عصياناً وضلالاً.
وهذه الولاية العامة أثبتها النبي (ص) لعلي (ع) يوم الغدير، قال (ص) في حشد المسلمين: "أيها الناس، من أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن الله مولاي. وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه". يقولها ثلاث مرات، ثم أمرهم بتبليغ الشاهد للغائب.
ونزل جبرئيل بآية الإكمال، فقال (ص): "الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الربّ برسالتي(24) والولاية لعلي من بعدي"(25).
قوله (ص): "من أولى بالمؤمنين من أنفسهم" إشارة إلى الآية الكريمة {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} تدليلاً على المقصود من الولاية التي أعلن بها بشأن علي(ع). وفي مثل هذه الخطبة، ولا سيما في ذلك الحشد الرهيب، شواهد كثيرة على إدارة ذلك المعنى الخاص: "الولاية العامة على الناس"، "الخلافة الكبرى".
وفي خطبة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (سلام الله عليها): "ففرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك ـ إلى أن قالت ـ وطاعتنا نظاماً للملة وإمامتنا لمّاً من الفرقة"(26).
وهكذا قوله تعالى {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(27) فيه دلالة صريحة على هذه الولاية، إذ لا طاعة إذا لم تكن ولاية، لأنه لا تجوز إطاعة أحد إطلاقاً إلاّ إذا ثبتت ولايته بدليل قاطع، الأمر الذي يختلف عن أخذ الفتوى من الفقيه، حيث لا أمر هناك ولا نهي، وإنما هو بيان حكم الله حسب استنباطه ونظره الخاص، وهذا على خلاف مسألة "الولاية" حيث الإطاعة المحضة، والتسليم والانقياد المطلق، في كل ما يأمر أو ينهي، مطلقاً سواء في الأحكام الشرعية أو غيرها، مما يمس سياسة العباد وإدارة البلاد على الإطلاق.
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً}(28).
قال الشيخ: المستفاد من الأدلة الأربعة أن للإمام سلطنة مطلقة على الناس من قبل الله، وأن تصرفه نافذ ماض مطلقاً.
نعم قال بعضهم: لا ملازمة بين وجوب الطاعة وثبوت الولاية(29)، وهو كلام غريب عن طبيعة الفقه، ولعله صدر من غير تأمل.
وذلك لأن الطاعة المفروضة على الناس تجاه أوامر النبي وأولي الأمر الشرعيين هي الطاعة المطلقة، سواء استصوبها رعاع الناس وعامة أفرادهم أم لم يستصوبوها، الأمر الذي يعني أعرفية ولاة الأمر بمصالح العامة من أنفسهم، فلولاة الأمر حق التصرف في شؤون العامة إدارياً وسياسياً، ويكون تصرفهم هو النافذ إطلاقاً، وليس لعامة الناس حق أي اعتراض، حسبما الآية الشريفة: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}، ومن ثم عقبها بقوله: {ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً}.
وعليه، فهذه الإطاعة المطلقة لا تعني سوى أولوية ولي الأمر من الناس بأنفسهم، وأن أي تصميم يتخذه ولي الأمر أولى من تصميم سائر الناس فيما يرجع إلى صلاح أنفسهم، ومقدم ذلك عليه وأولى بالاتباع والعمل عليه.
وليس ذلك سوى "الولاية العامة" الثابتة لولي الأمر ـ الإمام المعصوم أو الفقيه الجامع للشرائط ـ فهو أولى بالتصرف في شؤونهم على الإطلاق.
المقدمة الخامسة
في الفرق بين الإفتاء والحكم ومساسهما بمسألة الولاية
الإفتاء: بيان حكم شرعي من المجتهد وفق استنباطه الخاص، فالمفتي إنما يحكي حكم الله حسبما وصل إليه تحقيقه عن منابع الحكم؛ فهو في الحقيقة مخبر عن حكم الله في الواقعة، وليس منشئاً لحكم، وإنما هو حاكٍ وناقل ومخبر.
فإذا رجع إليه العامي ليستعلم حكم الله في المسألة فأفتاه المجتهد، كان ذلك عبارة عن بيان حكم الله حسب تحقيقه، لا أنه يرى ذلك حسب عقله وفكرته الخاصة، فليس بياناً لنظره، بل بياناً لنظر الشارع وفق تحقيقه الخاص.
فمورد الإفتاء هو الأحكام الكلية المترتبة على مواضيعها على نحو القضايا الحقيقية، وإنما على المكلف نفسه تطبيقها على مواردها الجزئية، حسب ابتلاءاته الخاصة، وليس من وظيفة الفقيه تعيين الموضوع، ولا التدخل في أمر التطبيق الخارجي، فإن ذلك من وظيفة العرف وتشخيص المكلف نفسه. ومن ثم قيل: تشخيص الموضوع ليس من وظيفة الفقيه من حيث كونه فقيهاً.
أما الحكم في القضاء فهو على خلاف الإفتاء تماماً، لأن القضاء عبارة عن إنشاء الحكم في الموارد الجزئية، ويكون تشخيص الموضوع من وظيفة القاضي، بل من أهم وظائفه، حيث المفروض عليه تشخيص الموضوع أولاً، تشخيصاً كاملاً، ثم إنشاء الحكم عليه؛ وأن لإنشائه الخاص موضوعية، فلا يجوز إجراء الحد أو تنفيذ أمر ما لم يحكم به القاضي عن إنشاء جدّي.
فالإفتاء والحكم على هذا يفترفان:
أولاً: في أن الإفتاء أخبار لا إنشاء، في حين أن الحكم في القضاء إنشاء لا مجرد أخبار.
وثانياً: أن الإفتاء يخص الموارد الكلية، والحكم لخاص بالموارد الجزئية.
وثالثاً: تشخيص الموضوع ليس من وظيفة الفقيه، في حين أن ذلك من أهم وظائف القاضي.
أما مسألة "الولاية العامة" فهي من جهة تشبه مسألة القضاء، نظراً لاختصاصها بالمواضيع، وأن تشخيص الموضوع فيها في مواردها هو وظيفة الولي الفقيه، لكن تختلف عنها من جهة ارتباطها بالقضايا العامة "المصالح العامة" التي هي فوق شأن القضاء، والتي تكون مسألة القضاء فرعاً عليها.
فمثل التصدي لشؤون القصّر والغيّب وتولية الأوقاف وما شاكلها، فإلى إقامة الجمعة والجماعات وإعلام الجهاد والدفاع وعقد الصلح والهدنة وسد الثغور وتشكيل جهاز الحكم في البلاد سياسياً ونظامياً وإدارياً، وحتى في مثل إصدار "الأحكام السلطانية" فيما يكون فصل الخصومات فيه موقوفاً على تحكيم الأحكام الثانوية تمسكاً بحديث "لا ضرر ولا ضرار" وأمثاله؛ كل ذلك يرجع إلى شؤون الولاية العامة، وهي فوق مسألة القضاء. لكن لا يحق لأحد أن يتصدى لشيء من الأمور المذكورة وما ماثلها من الشؤون العامة، إلاّ أن يكون فقيهاً جامعاً لشرائط الإفتاء، عارفاً بمواقع السياسة والشؤون الأممية والأحوال والأوضاع العامة، أو مأذوناً من قبله بإذن خاص أو عام؛ الأمر الذي يربط مسألة "الولاية العامة" بمسألة "الفقاهة" أولاً، ثم بعالم القضاء في مميزاته الخاصة؛ فهي منتشية من مقام الفقاهة، و مسيطرة على شؤون القضاء في آفاق وأبعاد أوسع منها. وقد ذكرنا في مسألة "القضاء": أن تعيين القضاة في الأطراف، إنما هو من شؤون ولاية الفقيه، إذا كانت للحكم الإسلامي تشكلات ونظم سائدة على البلاد.
المقدمة السادسة
في تقسيم الولاية إلى تكوينية وتشريعية
تنقسم الولاية ـ حسب المصطلح ـ إلى تكوينية وتشريعية. وتعني الأولى ولاية التصرف في التكوين إبداعاً أو تبديلاً من حقيقة إلى أخرى، أو من صورة إلى غيرها، بغير أسباب طبيعية متعارفة.
والتصرف في التكوين والإبداع من شأنه تعالى "لا مؤثر في الوجود إلاّ الله"، قال تعالى: {هل من خالق غير الله}(30).
نعم قد يظهر على أيدي بعض أوليائه المقربين بعض التصرف في التكوين، ويسمي بالإعجاز الخارق، كالذي ظهر على أيدي الأنبياء دليلاً على نبوتهم، وآية على صلتهم بعالم الغيب.
وهل يمكن ظهوره على يد غير الأنبياء من عباد الله الصالحين؟
الجواب: نعم. وقضية آصف بن برخيا حجة قاطعة على إمكان الوقوع، {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربّي}(31).
ويبدو من كثير من رواياتنا المتظافرة المأثورة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) أن هذا المقام كان ثابتاً للأئمة المعصومين، خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله أجمعين).
قال الإمام أبو جعفر الباقر(ع) في قوله تعالى: {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}: "هو علي بن أبي طالب(ع)"(32). وفي حديث آخر قال: "علي عنده علم الكتاب"(33).
وفي حديث عبد الرحمن بن كثير الهاشمي، قال: قرأ أبو عبد الله الصادق(ع) {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك}، ثم فرج أصابعه ووضعها على صدره فقال: "والله عندنا علم الكتاب كله"(34).
والأحاديث بهذا المعنى كثيرة جداً.
روى جابر عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: "إن اسم الله الأعظم على ثلاث وسبعين حرفاً، وإنما عند آصف منها حرف واحد ـ إلى أن قال ـ ونحن عندنا من الاسم اثنان وسبعون حرفاً، وحرف استأثر الله به، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم"(35).
بل يبدو من تعابير وجمل الزيارة الجامعة الكبيرة، أن للأئمة المعصومين مقاماً شامخاً، ومنزلة رفيعة عند الله لا يماثلها أي منزلة أخرى، تقول: "بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يسمك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، وبكم ينفس الهم ويكشف الضر، وعندكم ما نزلت به الرسل، وهبطت به ملائكته ـ إلى أن تقول ـ وأشرقت الأرض بنوركم وفاز الفائزون بولايتكم".
فالجملتان الأخيرتان، تشير الأولى منهما إلى مقام ولايتهم التكوينية: "هم أواصر ثبات هذا الكون ومصادر ازدهار هذه الحياة" {وأشرقت الأرض بنور ربها}(36)، والثانية تشير إلى ولايتهم التشريعية: "بموالاتكم علّمنا الله معالم ديننا وأصلح ما كان فسد من دنيانا، وبموالاتكم تمّت الكلمة وعظمت النعمة وائتلفت الفرقة، وبموالاتكم تقبل الطاعة المفترضة".
وفي الزيارة الأولى من الزيارات السبع المطلقة لأبي عبد الله الحسين (ع) التي رواها ابن قولويه بإسناد صحيح عن الإمام الصادق (ع) ما هو أعظم: "وبكم يباعد الله الزمان الكلِب(37)، وبكم فتح الله وبكم يختم الله وبكم يمحو الله ما يشاء وبكم يثبت وبكم يفكّ الذل من رقابنا، وبكم يدرك الله ِترَة(38) كل مؤمن يطلب، وبكم تنبت الأرض أشجارها، وبكم تخرج الأرض أثمارها، وبكم تنزل السماء قطرها ورزقها، وبكم يكشف الله الكرب، وبكم ينزل الله الغيث، وبكم تسبّح الأرض التي تحمل أبدانكم، وتستقر جبالها على مراسيها. إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم"(39).
والجملة الأخيرة هي التي تستلفت النظر وهي جديرة بالعناية والتدقيق. وهي إشارة إلى أنهم (ع) وسائط فيضه تعالى على الإطلاق(40).
أما الولاية التشريعية، فعبارة عن وجوب طاعتهم، وامتثال أوامرهم، ومتابعتهم في شؤون الحياة الدينية والإدارية والسياسية والاجتماعية.
{قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني}(41)، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}(42)، {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(43).
قال أبو جعفر(ع) "ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمان تبارك وتعالى، الطاعة للإمام، بعد معرفته تعالى، ثم تلا: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً}(44).
وقال أبو عبد الله (ع): "نحن قوم فرض الله طاعتنا وأنتم تأتمون بمن لا يعذر الناس بجهالته". وقال: "الناس عبيد لنا في الطاعة"(45).
هذه هي الولاية التشريعية العامة الثابتة للإمام المعصوم، بنص القرآن الحكيم والسنة القطعية، فهل هي أيضاً ثابتة للفقيه العادل في عصر الغيبة، بنفس السعة والشمول الذي كان ثابتاً للنبي والإمام (ع)؟
الأمر الذي هو مدار بحثنا في هذه الرسالة.
المقصد الأول
في إثبات الولاية العامة للفقيه الجامع للشرائط
وفيه فصول: الفصل الأول
في بيان الآراء في المسألة
الآراء في المسألة ثلاثة:
الأول: قول المشهور(46) بثبوت ولاية الفقيه ولاية عامة في جميع شؤون الأمة، تلك الولاية التي كانت للإمام المعصوم، وهي رئاسة الدنيا والدين، ومن ثم فله ما كان للإمام من إقامة الجمعة والجماعة مع بسط اليد، والأمر بالجهاد والدفاع عن الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإجراء الحدود، والقضاء والإفتاء وعقد الصلح وقبول الهدنة، وتقسيم الغنائم، وأخذ الأخماس والزكوات، وتولية أمر القصّر والغيّب والأوقاف العامة وتجهيز من لا وليّ له ووراثة من لا وارث له، وأن حكمه نافذ وتوليته باقية؛ كل ذلك من باب ولايته على هذه الأمور.
قال الشهيد: "والحدود والتعزيرات إلى الإمام ونائبه ولو عموماً، فيجوز في حال الغيبة للفقيه الموصوف بما يأتي ـ في القضاء ـ إقامتها مع المكنة. ويجب على العامة تقويته ومنع التغلب عليه. ويجب عليه الإفتاء مع الأمن، وعلى العامة المصير إليه والترافع في الأحكام"(47).
وقال الشهيد الثاني: هذا مذهب الشيخين (المفيد والطوسي)(48) وجماعة الأصحاب، وبه رواية(49) عن الصادق(ع) في طريقها ضعف، ولكن رواية عمر بن حنظلة مؤيدة لذلك، فإن إقامة الحدود ضرب من الحكم وفيه مصلحة كلية ولطف في ترك المحارم وحسم لانتشار المفاسد وهو قوي(50).
وقال العلامة: وفي رواية حفص بن غياث أنه سأل الصادق(ع) من يقيم الحدود، السلطان أو القاضي؟ فقال: "إقامة الحدود إلى من إليه الحكم"(51).
وهل يجوز للفقهاء إقامة الحدود في حال الغيبة؟ جزم به الشيخان عملاً بهذه الرواية، كما يأتي أن للفقهاء الحكم بين الناس فكان إليهم إقامة الحدود، ولما في تعطيل الحدود من الفساد. ثم قال: الحكم والفتيا بين الناس منوط بنظر الإمام (ع)، فلا يجوز لأحد التعرض له إلاّ بإذنه، وقد فوض الأئمة(ع) ذلك إلى فقهاء شيعتهم المأمونين المخلصين العارفين بالأحكام ومداركها. ثم ذكر رواية ابن حنظلة وأبي خديجة(52).
قال صاحب الجواهر: بل هو المشهور، بل لا أجد فيه خلافاً، إلاّ ما يحكي من ظاهر ابن زهرة وابن إدريس، ولم نتحققه، بل لعل المتحقق خلافه(53).
قال ابن زهرة في الغنية: من شرائط وجوب الجهاد أمر الإمام العادل أو من ينصبه الإمام... بلا خلاف أعلمه(54).
وقال ابن إدريس: الإجماع حاصل منعقد من أصحابنا ومن المسلمين جميعاً أنه لا يجوز إقامة الحدود، ولا المخاطب بها إلاّ الأئمة والحكام القائمون بإذنهم في ذلك(55). قال صاحب الجواهر: ويمكن اندراج الفقيه في الحكام عنهم(ع)(56).
وعبارة سلار في المراسم أصرح: قال في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فأما القتل والجراح في الإنكار فإلى السلطان أو من يأمره السلطان، فإن تعذر الأمر لمانع، فقد فوضوا (ع) إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس... وأمروا عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك ما استقاموا على الطريقة ولم يحيدوا(57).
قال صاحب الجواهر تعقيباً على ذلك: فمن الغريب بعد ذلك ظهور التوقف فيه من المصنف وبعض كتب الفاضل، لا سيما بعد وضوح دليله الذي هو قول الصادق(ع) في مقبول عمر بن حنظلة... ومقبول أبي خديجة والتوقيع...
ثم أخذ في الاستدلال بنصوص روايات كثيرة، وأخيراً قال: فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم (ع) أمراً، وتأمل المراد من قولهم: "إنّي جعلته عليكم حاكماً وقاضياً وحجةً وخليفة" ونحو ذلك، مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم. وقد قال قبل ذلك: بل لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة(58).
وأخيراً قال: "هذا حكم أساطين المذهب".(59) كلمة قاطعة، جديرة بالتفخيم والإعظام.
وهذا الرأي هو الذي ارتآه سيّدنا الإستاد الإمام الخميني (دام ظله)، وقام بإعلامه والتشييد من مبانيه في قوة بيان وتمام برهان. وكل ما ذكرته في هذا المجال هو رشفة من بحره الزاخر ونشفة من قطره الغزير(60).
الثاني: رأي المحقق النائيني (قدس سره)؛ فقد أثبت للفقيه حق الإفتاء والقضاء وكل ما يكون راجعاً إلى شؤون القضاء، كأخذ المدّعى به من المحكوم عليه، وحبس الغريم المماطل، والتصرف في بعض الأمور الحسبية كحفظ مال الغائب والصغير، ونحو ذلك، كالحكم بثبوت الهلال، والفصل في الديون والمواريث؛ كل ذلك لولايته على هذه الأمور.
هذه هي المرتبة النازلة من مراتب الولاية، المقصورة على شؤون القضاء فحسب، أما المرتبة العليا منها وهي الولاية على الأنفس وفق نص الآية الكريمة {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} الأحزاب:6، فهي خاصة بالمعصوم لا يتقمصها غيره إطلاقاً.
وبعدها مرتبة أخرى قابلة للتفويض؛ فقسم منها يرجع إلى الأمور السياسية التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام أمور العباد وسد الثغور، والجهاد ضد الأعداء والدفاع ونحو ذلك، مما يرجع إلى وظيفة الولاة والأمراء، وقسم يرجع إلى الإفتاء والقضاء. فقد كان هذان المنصبان في عصر المعصوم لطائفتين: الولاة والقضاة. و ربما كانتا لشخص واحد إذا كانت له الأهلية لكلتا الجهتين، فكانت له الوظيفتان إما أصالة كالنبي (ص)، أو إعطاء في غيره.
قال: لا إشكال في ثبوت منصب القضاء والإفتاء للفقيه في عصر الغيبة، وهكذا ما يكون تابعاً لشؤون القضاء، بعنوان المنصب والولاية عليها، إنما الإشكال في ثبوت الولاية العامة، وأظهر مصاديقها: سد الثغور ونظم البلاد والجهاد والدفاع، وكذا مثل إجراء الحدود وأخذ الزكوات والأخماس وإقامة الجمعة ونحوها.
ثم أخذ في مناقشة أدلة المثبتين، وأخيراً أنكرها وقال: وكيف كان فإثبات الولاية العامة للفقيه، بحيث تتعين صلاة الجمعة بإقامته لها أو نصب إمام لها مشكل(61).
الثالث: رأي سيّدنا الأستاذ الخوئي (دام ظله) حيث أنكر مطلق الولاية للفقيه حتى ولايته في شؤون القضاء، وقال بقصور الأدلة عن إثبات أية ولاية للفقيه إطلاقاً.
قال: إن الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل، وإنما هي مختصة بالنبي والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، بل الثابت حسبما يستفاد من الروايات أمران: نفوذ قضائه، وحجّية فتواه. وليس له التصرف في أموال القصّر أو غير ذلك مما هو من شؤون الولاية، إلاّ في الأمر الحسبي، فإن الفقيه له الولاية في ذلك لا بالمعنى المدعى، بل معنى نفوذ تصرفاته بنفسه أو بوكيله وانعزال وكيله بموته، وذلك من باب الأخذ بالقدر المتقين، لعدم جواز التصرف في مال أحد إلاّ بإذنه، كما أن الأصل عدم نفوذ تصرفانه.. إلاّ أنه لما كان من الأمور الحسبية ولم يكن بدّ من وقوعها في الخارج، كشف ذلك كشفاً قطعياً عن رضى المالك الحقيقي وهو الله تعالى.
والقدر المتقين ممن رضي المالك الحقيقي بتصرفاته هو الفقيه الجامع للشرائط، فالثابت للفقيه جواز التصرف دون الولاية(62).
الفصل الثاني
في طرق الاستدلال لإثبات ولاية الفقيه
الطرق المعروفة لإثبات هذه المسألة الأصولية ـ لأنها امتداد لمسألة الخلافة الكبرى بعد رسول الله (ص) ـ أربعة:
1ـ الإجماع من فقهائنا المحققين القدامى والمتأخرين، حسبما عرفت آراءهم بالإجماع والاتفاق في الفصل الأول.
2ـ الدليل العقلاني وهو المعبر عنه أخيراً بالأخذ بالقدر المتيقن.
3ـ عموم الكتاب، فيما يرتبط بمسألة "أولي الأمر" على الإطلاق.
4ـ النصوص الواردة بشأن ولاية الفقيه إن عامة أو خاصة.
هذا.. وأما النافي لولاية الفقيه فإنه لا يملك مستنداً لاختيار طريق الإنكار، سوى مناقشات فنية أوردها على أدلة المثبتين، إما تضعيفاً لسند، أو تشكيكاً في دلالة، معتمداً على أصالة العدم، حيث الأصل الأوّلي هو عدم ولاية أحد على أحد وعدم وجوب إطاعة أحد لأحد، إلاّ ما ثبت بدليل.
ونحن نذكر مناقشاته تباعاً عندما نستعرض أدلة المثبتين إن شاء الله:
1ـ الطريق الأول:
أجمع فقهاؤنا على ثبوت ولاية الفقيه في جميع ما يرتبط بشؤون الأمة، السياسية والإدارية، وفق ما كان للإمام المعصوم(ع).
وقد سبقت عبارة صاحب الجواهر "هذا حكم أساطين المذهب"، وقال قبل ذلك: "بل هو المشهور، بل لم أجد فيه خلافاً، إلاّ ما يحكى عن ظاهر ابن زهرة وابن إدريس ولم نتحققه". وقد أشبعنا الكلام في ذلك في الفصل الأول، فلا نعيد(63).
2ـ الطريق الثاني: الأخذ بالقدر المتيقن:
وهو استدلال عقلاني تستنتجه مقدمات ضرورية معلومة من حال الشرع، ومعروفة عن مقام حكمته. وهو يقوم على مقدمات:
الأولى: الإسلام دين جامع وكافل لإسعاد الإنسان في كافة شؤون حياته الإدارية والاجتماعية والسياسية "ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنة"(64).
وفي خطبته (ص): "ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به"(65). والأسانيد صحيحة(66).
الثانية: الإسلام دين الخلود والشمول، دين يبقى خالداً مع الأبدية ويشمل جميع الأزمان والأعصار "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه إلى يوم القيمة". والأدلة على خاتمية دين الإسلام هي الكافلة لإثبات هذا المدّعى.
الثالثة: الإسلام نظام ذو مسؤولية قائمة في كل زمان، قال الإمام الصادق (ع) "ما زالت الأرض إلاّ ولله فيها الحجة؛ يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله". وقال: "إن الله لا يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لم يعرف الحق من الباطل". وقال: "إن الأرض لا تخلو إلاّ وفيها أمام، كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردّهم وإن نقصوا شيئاً أتمّه لهم". وقال: "إن الله أجلّ وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل"(67).
وبعد.. فإذا كان الإسلام دين الشمول والخلود إلى نهاية العالم، وذا نظام جامع مسؤول، فهل من المعقول أن يترك مسؤوليته سدىً في فترة غير قصيرة المدى، وبلا تعيين من يقوم بالمسؤولية الكبرى التي تستدعيها عظمة هذا الدين وسعته وشموله وخلوده وأبديته؟!.
ومن ثم فإن دليلنا على إثبات ولاية الفقيه في عصر الغيبة، هو دليلنا على مسألة الإمامة(68) والخلافة الكبرى بعد رسول الله (ص).
قال سيدنا الأستاذ الإمام الخميني (دام ظله): "لا يعقل ترك ذلك من الحكيم الصانع، فما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر (عجّل الله فرجه) ولا سيما مع طول الأمد"(69).
إذن فتعيين المسؤولية أمر لابدّ منه من الحكيم الصانع، فهل هي للمؤمنين كافة؟ الأمر الذي يستدعي الفوضى، أم لخصوص عدولهم مطلقاً حتى مع فقد العلم والكفاءة؟ الأمر الذي يستبعده العقل. فلابدّ أنه "للعارف بأحكام الإسلام الورع الكفؤ" وهو المصطلح عنه بالفقيه العادل الكفوء.
ونوقش هذا الاستدلال بوجود احتمال رابع، وهو أن تكون المسؤولية على عاتق الأكثرية مع اشتراط إشراف الفقيه على تصرفاتهم، لضمان انسجامها مع الشريعة الإسلامية، أو تكون الولاية بيد الخبراء الاختصاصيين في مجالات السياسة وإدارة المجتمع، على أن يراجعوا الفقهاء، بقدر ما يتصل بالفقه الإسلامي، وهو أمر غير الولاية العامة للفقيه(70).
لكن المناقشة غير واردة، إذ ذهب عن المناقش أن القول بولاية الفقيه لا يعني الاستغناء عن الفئتين الأخريين: الأكثرية، ليكونوا عماده في الحكم عند المشورة، والخبراء، ليكونوا سنده في تمشية الأمور.
ولعل المناقش حسب من ولاية الفقيه تصديه شخصاً لجميع شؤون الأمة جزئيها وكلّيّها، إداريها وسياسيها، اجتماعيها واقتصاديها، ليكون الفقيه هو الحاكم وهو القاضي وهو المحتسب وهو المباشر لكافة شؤون الدولة، الأمر الذي لم يفعله رسول الله (ص) مباشرة، بل كان يستعين بذوي البصائر في إدارة البلاد وتنظيم شؤون العباد. ومن ثم كان (ص) مأموراً بمشاورة ذوي الرأي والبصيرة في الأمور {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}(71).
نعم يكون العزم والتصميم النهائي والأخذ بزمام جلّ الأمر، والتصدي لرأس الحكم، من وظيفة ولي المسلمين، حيث بيده الحزم والجزم في الأمور، متوكلاً عليه تعالى، لا على غيره من المخلوقين إطلاقاً.
وسنبحث ـ في فصل قادم ـ عن ضرورة الأخذ بالمشاورة و متابعة رأي الأكثرية في إدارة شؤون الدولة وسياسة البلاد، فيأتي دور ذوي الاختصاص للاستناد إليهم لا التفويض إليهم كما زعموه.
وعليه فاحتمال استقلال أحد الفريقين المذكورين ـ في المناقشة ـ بالحكم، إبعاد للإسلام عن مجال الحكم. وقيد النظارة كلام ظاهري أو سفسطة في الجدل، لا يلتزم به الحكام إذا انفصلوا عن زعماء الدين. ولنا التجربة عبر عشرات القرون، تأسست خلالها حكومات على أسس إسلامية عريقة، لكنها سرعان ما تقوّضت دعائهما وتبدّلت إلى أحكام طواغيت استبدّوا بالأمر وأخذوا بالقرع على رؤوس المسلمين، بتلك الأيدي التي تقوّمت الحكومة بجهودها في سبيل إقامتها! ولله عاقبة الأمور.
على أن مسألة النظارة إن كانت مع قيد المسؤولية، فهي الولاية بعينها، وإن كانت بلا تحمل مسؤولية، فلا موقع لها ولا أثر يذكر.
3ـ الطريق الثالث: عموم القرآن الكريم:
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلاً * ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمِروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدوداً}(72).
في هذه الآية الكريمة دستور بليغ بإطاعة الله وإطاعة الرسول وإطاعة أولي الأمر، وإن الله والرسول وأولي الأمر هم وحدهم مراجع الأمة في جميع الشؤون الإدارية والسياسية التي هي لإحلال النظام محل الفوضى والاختلاف، كما قال في آية أخرى:
{وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلاّ قليلاً}(73).
إذن، فهل هذا الدستور خاص بعهد الحضور، وأن الأمة مرخصة في الرجوع إلى الطواغيت والدخول في ولايتهم الظالمة، عند فقد الولي؟! لاشك أن ذاك دستور لا يقبل تخصيصاً بعهد دون عهد أو بفترة دون أخرى، بعد أن كان معللاً بأن هناك ولايتين: ولاية الله، وولاية الشيطان؛ وليس يرخص مؤمن أن يدع ولاية الله البيضاء ويرضخ تحت ولاية الطاغوت الظلماء {الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}(74).
فهناك جبهتان متقابلتان: جبهة الحق، وجبهة الضلال؛ وليس من شأن المؤمن العارف بالله أن يترك النور إلى الظلمات، الأمر الذي يحتم من استمرار الحكم بالرجوع إلى ولاة الأمر الشرعيين في جميع الشؤون التي ينبغي فيها الرجوع إلى ولاة الأمر، ولا يجوز لمسلم مهما تغير الزمان واختلفت الأحوال أن يرجع إلى طاغوت أو يتخذه وليّاً. كيف وقد أمروا أن يكفروا به؟!
وعليه، فمن هم الولاة الشرعيون الذين يجب الرجوع إليهم والدخول في ولايتهم؟
والخلاصة: المعلوم من نصوص الكتاب العزيز، أن من وظيفة المؤمن الالتزام بولاية الله وأن لا يرضخ لطاغوت أبداً. وهذا حكم عام يشمل كل الأدوار والأوضاع ولا يختص بدور أو بوضع محدود.
وعليه فلنتساءل: إذا كان الواجب هو الاستسلام لولاة الأمر، فهل المقصود مطلق الولاة حتى ولو كانوا من الطواغيت الذين أُمرنا أن نكفر بهم ولا نستسلم لولايتهم إطلاقاً، أم هم الولاة العدل الشرعيون؟
وإذا كان الثاني هو الصحيح، فمن هم الولاة الشرعيون؟
أفهل يمكن العثور عليهم في غير صنف الفقهاء الأكفاء العدول؟ لأنهم هم مثل الأنبياء وورثة المعصومين وأعلم الناس بمواقفهم في تسيير الأمة وتوجيهها إلى جادة الصواب وساحل النجاة.
قال تعالى: {أفمن يهدي إلى الحق أحقّ أن يتّبع أمن لا يُهدّي إلاّ أن يهدى فمالكم كيف تحكمون}(75).
قال أمير المؤمنين (ع) "أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه". وقال: "ولا يحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحق"(76).
وقال: "إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به"، ثم تلا {إن أولى الناس بإبراهيم لَلذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله وليّ المؤمنين}(77).
4ـ الطريق الرابع: الاستدلال بالنصوص:
النصوص الواردة بشأن "ولاية الفقيه" كثيرة، منها عامة يستنبط منها ولايته في عصر الغيبة، ومنها خاصة ناصّة على خصوص ولايته في الغيبة الكبرى. ونحن نذكر منها الأعلى سنداً والأظهر دلالة:
الحديث الأول:
روى الصدوق (رحمه الله) في العيون بأسانيد ثلاثة، وفي معاني الأخبار بسند رابع، وفي المجالس بسند خامس، و اعتمد عليها، فأرسلها في الفقيه إرسال المسلمات، قال: وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول الله(ص) "اللهم ارحم خلفائي. قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي"(78).
يبدو من هذا الكلام الذهبي أنه (ص) كان بصدد التعريف بمن يخلفه في الأمر من بعده على الإطلاق، تعريفاً عاماً صالحاً للاستناد إليه في جميع العصور. ومن ثم كرّر قوله: "اللهم ارحم خلفائي" ثلاثاً استلفاتاً لتنبه أصحابه واهتماماً بالأمر، فعادوا يسألونه: ومن خلفاك؟ الأمر الذي كان (ص) قد أراده من البدء، فأدلى ببيانه الشافي المحدد لجوانب هذه الخلافة والسمات التي يعتبر وجودها في شخص الخليفة، فقال (ص): "يأتون من بعدى يروون حديثي وسنتي".
رواية الحديث والسنة هي بمعنى القدرة على نشر سنته وسيرته (ص) بين الأمة نشراً يتجلى فيه مثاله الكامل من أقواله وأفعاله أجمع، أي تتجلى في شخصية القائم بالدعوة شخصية الرسول الأعظم (ص) في جميع أبعادها قولاً وعملاً، فيكون مثاله المتجسد في توجيه الأمة إلى ساحل النجاة؛ إذ ليس المقصود من السنة (في لفظ الحديث الشريف) هي السنة المصطلحة الشاملة لأقواله (ص) أيضاً، بلا حاجة إلى ذكر "حديثي" منضمّاً إلى "سنّتي".
ومن ثم ليس المقصود من "الرواية" في قوله "يروون" هي الرواية المصطلحة، إنما المقصود من "السنة" هي سيرته الكريمة في قيادته الحكيمة لهذه الأمة الكبيرة. فالمقصود من رواية حديثه وسنته، هي كون شخصية الخليفة مرآة منعكساً فيها شخصية الرسول الأعظم، في جميع أبعاد حياته القيادية الكبرى، التي تتمثل في أقواله وأعماله، التي قام بها في توجيه الأمة نحو سعادة الحياة.
وعليه فكل من صلح للقيام بهذه المهمة الكبرى وتمثلت في شخصيته شخصية الرسول الأكرم، فكان مثاله الكامل في بيان أقواله والقيام بأعماله القيادية، أي مرآة صافية ينعكس منها مثال نبي الله العظيم سيرة وسنة، كان ذلك خليفته في إدارة شؤون هذه الأمة وتسيير أمورهم.
وقرينة أخرى في الكلام: إضافة "سنتي" بما يفيد الشمول والعموم، أي من يكون مرجعاً للناس في معرفة طريقتي والاطلاع على أقوالي أجمعها، إذ ليس رواة الحديث مراجع الأمة في معرفة مطلق شؤونه (ص)، إنما المرجع في معرفة شؤونه (ص) وأنحاء سنته وأقواله في شتى شؤون الدين وإدارة أمور المسلمين هم الفقهاء العارفون بحقائق الإسلام، أصوله وفروعه، الصالحون لبيان حقيقة ما عمل به النبي وتحدث به، فيما يمس الشريعة المقدسة، بياناً عملياً متجلية فيه سيرة النبي وكلامه المستند إلى الوحي.
إنما هذا شأن الفقهاء وليس من شأن رواة الحديث، الذين لا يهمّهم سوى مجرد الرواية في بعض ما سمعوه من أقواله أو وعوه من أعماله، لا في كلها جميعاً على نحو الاستيعاب، الذي هو شأن الفقيه الجامع الكفي.
هذا.. وقد كان الأئمة المعصومون (عليهم السلام) في عصر الحضور هم المثل الأعلى لشخصية الرسول العظيمة، وكانوا هم مراجع الأمة في معرفة شؤون النبوة والولاية لتوجيه الأمة نحو الخير والصلاح.
وأما بعد وقوع الغيبة الكبرى، فالفقهاء الأمناء على الحلال والحرام الأكفاء، هم الذين يمثلون شخصية النبي الكبرى في جميع أبعادها، سنةً وسيرةً، قولاً وعملاً، فهم ولاة الأمر بعد الأئمة المعصومين وهم خلفاؤه المفوض إليهم إدارة شؤون الأمة وولاية أمورهم، بعموم هذا النص الضافي.
وهنا ـ أيضاً ـ نكتة دقيقة يجب التنبّه لها، وهي تمس جانب نطاق ولاية الفقيه سعة وشمولاً، يعرف ذلك من لحن الحديث الشريف(79).
ذلك أن حدود "ولاية الفقيه" إنما تدور مدار نطاق مرجعيته للأمة وعلى أساس ما تمكن من دعم قواعد الإسلام وتحكيم سيادة الشريعة بين الأنام، فبقدر ما توسعت سيطرته الفكرية على الأمة الإسلامية، بذلك المقدار شملت حكومته الشرعية وتوسعت ولايته على الناس. إن فقيهاً استطاع السيطرة التوجيهية على أمة بكاملها فهو وليّهم الشرعي والحاكم عليهم والمتصرف في شؤونهم، لا يزاحمه غيره ممن لم تكن له يد في توجيه الأمة على الإطلاق. وإذا كانت سيطرته أوسع شمولاً أو أضيق دائرة، فإن ولايته الشرعية تتقدر بقدرها سعة وضيقاً لا محالة.
الأمر الذي يستفاد من لحن كلامه(ص) "يروون حديثي وسنتي"، فبقدر ما يروون، أي يروون وجه الإسلام للأمة، يكونون خلفاء الرسول، كما قال الصادق (ع) "اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر رواياتهم عنّا"(80).
واعترض على التمسك بالحديث بأن خير ما يمكن أن يقال في تقريب دلالته هو التمسك بإطلاق "الخلافة" لإثباتها في كل ما يحتمل خلافتهم عنه (ص). إلاّ أن الإطلاق الموجب للسريان والشمول لا يجرى في المحمول، فمثلاً لو قيل: زيد عالم، لم يدل ذلك بالإطلاق على كونه عالماً بكل شيء، بل مهمل من هذه الجهة، وإنما الثابت هو علمه في الجملة. وهكذا الثابت بهذا الحديث هي الخلافة في التعليم والإرشاد، فيكون الحديث بصدد بيان عظمة الرواة والرواية والإرشاد(81).
لكن لا أساس لهذا الاعتراض، نظراً لعدم فرق بين الإطلاق في الموضوع أم في المحمول إذا توفرت شرائطه (مقدمات الحكمة)؛ فقولنا: أكرم العالم، كما يكون للعالم إطلاق ـ وهو موضوع ـ كذلك يكون للإكرام إطلاق ـ وهو محمول ـ فيشمل وجوب إكرامه بجميع أنحاء الإكرام، تمسكاً بالإطلاق.
وأما التمثل بقوله "زيد عالم" فلا يصلح شاهداً لمدّعاه، حيث الإهمال في جانب المحمول في هذا المثال، لأن المتكلم بمثل هذا الكلام إنما يكون بصدد إبداء كون زيد عالماً وليس بجاهل، ليرفع به عن مقام الجهال إلى مجال العلماء، وليس بصدد بيان أنحاء معارفه، ليكون حذف المتعلق دليلاً على إرادة العموم. وهذه قاعدة بيانية يقتصر المتكلم على بيان مقصوده بمقدار فلا يزيد شيئاً؛ فلو كان بصدد كون زيد معطياً، يجب أن لا يذكر المعطي ولا المعطى له ولا يؤخذ بإطلاق كلامه حينذاك، أما إذا كان بصدد بيان المعطي أو المعطى له، وجب ذكره فقط دون الآخر، إلاّ إذا كان غرضه بيان الجميع فيذكر الجميع.
وعلى أية حال، فإن الدلالة التصديقية للكلام (التي هي مناط الأخذ بالإطلاق) تابعة للإرادة الجدية من الكلام. وللكشف عن هذه الإرادة وسائل وأدوات معروفة.
ثم إن قرائن الأحوال والأوضاع المكتنفة بالكلام وكذلك حال المخاطبين، هي من خير الأدلة على تعيين مراد المتكلم.
والمتكلم ـ هنا ـ وهو النبي الكريم، إنما تكلم بهذا الكلام عن مقام نبوته ورئاسته وقيادته. والمخاطبون هم أصحابه وأمته ومتابعوه، فهكذا متكلم إذا خاطب هكذا مخاطبين بمثل هكذا كلام، أفلا يفهم منه إرادة الخلافة في جميع شؤونه المرتبطة بمقام إمامته على الأمة؟ فأين الإهمال؟ واين مجال الأخذ بالقدر المتيقن؟
وقد ناقشت المعترض ـ شفاهاً ـ بمثل ما ذكرته هنا، وقلت له أفلسنا نأخذ بإطلاق الخلافة في قوله (ص): "هذا علي خليفتي" ونعتبره نصاً على مقام خلافته بعد رسول الله في جميع شؤون الإمامة؟ فلم يحر جواباً وأحال إلى مجال آخر.
واعتراض آخر ذكره البعض، قالوا بالفرق بين قوله: "هذا خليفتي" وقوله: "اللهم ارحم خلفائي"، إذ لم يكن الثاني بصدد تعيين الخليفة لأنه في مقام الدعاء لا الإخبار. نعم يظهر منه كونهم خلفاءه في الجملة.
مضافاً إلى أن عنوان الخليفة من مقولة التشكيك، فكما يشمل اللفظ خلفاءه من جميع الجهات كالأئمة (ع) كذلك يشمل خلفاءه في بعض الجهات، لا سيما وقوله "يروون حديثي وسنتي" قرينة على إرادة خلافته من هذه الجهة فقط.
قالوا: ولو شمل مطلق الراوي للحديث والسنة ليكون الجميع خلفاءه بقول مطلق وفي جميع الجهات، لكان منافياً لما دلّ على حصر خلفاءه(ص) في اثني عشر. وعليه فالرواية مجملة لا تصلح للاستدلال بها(82).
وهذه المناقشة كسابقتها موهونة، إذ لا فرق بين بيان الحكم صريحاً أو بالكناية والتعريض، إذا كان مفهوماً كالصريح، وهذه من عادة أمراء الكلام حيث يؤدون مقاصدهم في لحن القول أكثر مما يؤدونها في صريح الكلام. ومن ثم رغبوا أهل النباهة من أصحابهم ليعرفوا معاريض الكلام ويدققوا في نكاتها. هذا ولا سيما التكرار في الدعاء المزبور، خير شاهد على إرادة هذه التنبيه البليغ.
وأما كون عنوان "الخليفة" من مقولة التشكيك، فإن مقام التكلم وشخصية المتكلم وسمته الاجتماعية هي التي تعين المرتبة المقصودة، وكذلك جماعة المخاطبين بذلك الكلام، فإن نوعيتهم غالباً تعين المراد من اللفظ.
مثلاً إذا كان صاحب البيت يريد السفر وقال لأهله: فلان خليفتي عليكم، يعلم إرادة من ينوب عنه في إدارة البيت. وهكذا إذا قال رئيس شركة أو مصنع كل بحسب ما يقوم به من وظيفة خاصة وفي محيطه الخاص.
وعليه فإذا كان المتكلم بهذا الكلام رئيس دولة، وكان المخاطبون هم الرعايا، فإن مقتضى ظاهر هذا الكلام هو إرادة الخلافة في جميع ما يكون مرتبطاً بشؤون ولايته وزعامته عليهم.
وأما مسألة حصر خلفاءه (ص) في اثني عشر، فهو من باب التنصيص الخاص على الأولى والأحق بهذا المقام، الأمر الذي لا يتنافى مع عموم استحقاق الخلافة لمن استجمع الشرائط وصدق عليه العنوان المذكور في ظرف فقد المنصوص عليه بالمخصوص.
وهذا نظير ما ورد "يصلي على الميّت أولاهم بميراثه" مع قولهم يصلي عليه ولده الأكبر، إذ لا تنافي بين الكلامين، نظراً لأن العرف يفهم أولوية الولد الأكبر مع وجوده، أما مع فقده فسائر الورثة ممن كان أقرب إلى الميت أولى من غيرهم بالصلاة عليه.
والخلاصة:
أن بيان حكم عام ثم ورود نص خاص، إنما يعنى الأهمية والأولوية، مما لا يتنافى وثبوت الحكم العام.
الحديث الثاني:
روى ثقة الإسلام الكليني بإسناد صحيح عن علي بن أبي حمزة البطائني ـ وهو ثقة عندنا لرواية الإجلاء وأصحاب الإجماع عنه، ولا سيما مثل صفوان وابن أبي عمير، فقد أكثر الأخير الرواية عنه. وقال الشيخ في العدة: عملت الطائفة بأخباره. وفي ذلك كفاية ـ قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (ع) يقول: "إذا مات المؤمن بكت عليه ملائكة السماء ـ إلى أن قال ـ لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها". وفي رواية أخرى: "إذا مات المؤمن الفقيه..."(83).
فقد شبّه (ع) مقام الفقهاء في الإسلام بالحصون الحصينة الصامدة في وجه هجمات الأعداء، فهم دعاة الدين وحفظته والمدافعون عنه فإذا كنا نعرف من الدين سيطرة سياسية وإدارية واجتماعية تشريعاً وتنفيذاً، فالمدافع عنه، هو المسؤول الأول لبسط الدين وتحكيم قواعده، ومن ثم تشمل سيادته كافة أبعاد حياة المسلمين. وهل هذا إلاّ معنى "الولاية العامة" الثابتة للفقهاء الأكفاء؟!
وهذا هو معنى ما ورد: "مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه"(84).
وروى الآمدي في الغرر عن أمير المؤمنين (ع) قال: "العلماء حكام على الناس"(85).
والروايات يعضد بعضها بعضاً، ومن ثم كان الاطمئنان بالصدور إجمالياً قطعياً.
ولعل معترضاً يقول: هب أن الفقهاء مسؤولون عن الدين، ولكن هذا لا يعني مسؤوليتهم عن المؤمنين؛ فالمسؤولية عن الإسلام شيء، والمسؤولية عن المسلمين شيء آخر!
لكن لا موضع لهذا الاعتراض بعد كون المقصود من حراسة الإسلام هي حراسة كيانه في وجود المسلمين، لا حراسة ثبته طيّ الكتب والسطور وفي مخازن المكتبات، إذ الإسلام يزول بزواله عن النفوس المؤمنة إذا سيطر عليهم العدو ـ لا سمح الله ـ ولم يكن من يقوم بشؤونهم ويدافع عن كيانهم ويقف سداً منيعاً في وجه العدو الغادر الذي يريد استعمار المسلمين فكرياً ثم سياسياً وعسكرياً في نهاية الأمر.
وهذا بعينه نظير قولنا: الأئمة (ع) بعد النبي (ص) حفظة الدين ودعاة الإسلام، الأمر الذي لا يعني سوى المسؤولية الكبرى والولاية العامة، كما كانت للرسول الأعظم (ص).
الحديث الثالث:
قال الإمام أمير المؤمنين (ع) في خطبة يصف فيها موقفه من الخلافة: "أيها الناس، إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه"(86).
ومقصوده (ع) من "هذا الأمر" هي مسؤولية الأمة، فهي حق لأقوى الناس بالقيام به و الأعلم بحكم الله في تحمل هذه المسؤولية. وهذا هو المعنى بقولنا: الفقهاء الأكفاء.
وهكذا جاء في كلامه الآخر(ع): "إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به"(87). يعنى أحقهم بميراث الأنبياء؛ وليس ميراثهم سوى مسؤوليتهم في التشريع والتنفيذ لحكم الله على الخلائق، وهي معنى الولاية المطلقة لا شيء سواها؛ فالعلماء هم ورثة الأنبياء (كما في الحديث)(88) في أظهر شؤونهم الرسالية.
وقد عبّر الإمام أمير المؤمنين(ع) عن زعامة المسلمين التي هي حقه الشرعي بعد رسول الله (ص) بالتراث، قال: "فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً"(89).
وقال في خطبة أخرى: "ولا يقاس بآل محمد (ص) من هذه الأمة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً؛ هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة؛ الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقلة"(90).
الحديث الرابع:
قول أمير المؤمنين (ع) أيضاً في خطبته المعروفة بالشقشقية: "أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها..."(91).
الكظة: التخمة تعرض البطن على اثر الأكل على الشبع.
والسغب: شدة الجوع.
والمقصود استئثار الظالم بحق المظلوم، أي أخذ الله ميثاق العلماء أن لا يصبروا على استئثار الأقوياء بحقوق الضعفاء، بل يقوموا في وجههم ويأخذوا حق المظلوم من الظالم.
فعلى العلماء مسؤولية بسط العدل في جامعة المسلمين والأخذ بأعباء الأمر بكاهل الجد، مهما مكنتهم القدرة على ذلك. وما هي إلاّ إمامة المسلمين والولاية على شؤونهم الإدارية والسياسية والعسكرية، ومن ثم طبقها (ع) على الخلافة وزعامة الأمة، عند توفر شروطها المادية والمعنوية.
الحديث الخامس:
روى ثقة الإسلام الكليني بإسناد موثق عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص): "الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا...."(92).
هذا الحديث رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن الحسين بن يزيد النوفلي عن إسماعيل بن أبي زياد السكوني عن أبي عبد الله (ع).
والنوفلي كان من أعلام الشيعة، كوفي سكن الريّ ومات بها، وكان من شدة ولائه لآل البيت أن رماه القمّيون بالغلو، لكن لم يؤثر منه ما يدل على ذلك، الأمر الذي يكشف عن مبلغ استسلامه لأهل بيت العصمة وعدم محاباته في إظهار الولاء في مديح شعره وقريض أدبه.
وله في الفقه وغيره روايات كثيرة عمل بها الأصحاب، كما قد وقع في إسناد كامل الزيارات الذي ضمن مؤلفه ابن قولويه وثاقة الرواة الذين يشكلون سلسلة أسانيد هذا الكتاب. وقد اعتمده سيدنا الأستاذ الخوئي (دام ظله).
وأما إسماعيل بن مسلم (ابن أبي زياد السكوني) فهو عامي ثقة اعتمده الأصحاب، وكان من أصحاب الصادق (ع) وروى عنه روايات كثيرة معمول بها في الفقه. وقد روى عنه أصحاب الإجماع مثل عبد الله بن المغيرة وفضالة بن أيوب، كما قد وقع في إسناد كامل الزيارات أيضاً. قال الشيخ في العدة: "عملت الأصحاب برواياته" دليلاً على الثقة بالرجل. قال سيدنا الأستاذ الخوئي (دام ظله) في معجم رجال الحديث: السكوني ثقة وكذا النوفلي الراوي عنه أيضاً ثقة على الأظهر(93).
فالحديث من حيث الإسناد معتبر بلاشك.
أما فقه الحديث، فالمعني بالأمناء هم المستودعون لأداء رسالة الله في الأرض، بنفس المعنى الذي أطلق على الأنبياء أيضاً.
قال علي (ع) في وصف الأنبياء:
"فاستودعهم في أفضل مستودع ـ إلى أن قال ـ وانتخب منها أمناءه"(94).
وقال في أولى خطبة من نهج البلاغة:
"واصطفى سبحانه من ولده (آدم) أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم"(95).
فكما أن الأنبياء هم مستودع أمانة الله في الأرض، كذلك العلماء، قد حملوا أمانته تعالى التي هي خلافة الله في الأرض.
وفي حديث الأمام الرضا (ع)، رواه الصدوق بإسناد معتبر قال: "إن الخلق لما وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلاّ بأن يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم ـ إلى أن قال ـ فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد"(96).
فقد عبّر (ع) عن مقام النبوة بمستودع أمانة الله والقوامة الشرعية على الخلق؛ فالنبي أمين الأمة والقيّم لهم في تسيير حياتهم نحو السعادة، فإذا كان الفقيه أيضاً أميناً بهذا المعنى فهو وليّ المسلمين والمسؤول عن إدارة شؤونهم وفق منهج الشريعة.
وفي حديث أمير المؤمنين (ع) مع شريح: "إن إمام المسلمين يؤتمن من أمورهم على ما هو أعظم"(97).
هذا.. وقد كرر لفظ أمين في القرآن تعبيراً عن مقام النبوة والأمانة في أداء رسالة الله في الأرض:
{إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين}(98).
{إذ قال لهم أخوهم هود إلا تتقون * إني لكم رسول أمين}(99).
{إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين}(100).
{إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إني لكم رسول أمين}(101).
{إذ قال لهم أخوهم شعيب ألا تتقون * إني لكم رسول أمين}(102).
{...وجاءهم رسول كريم * أن أدّوا إلىّ عباد الله إني لكم رسول أمين}(103).
{أبلّغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين}(104).
وعليه فمسألة الأمانة هي من خصائص النبوات؛ فإذا كان الأنبياء أمناء الله في أداء رسالته، كان الفقهاء أمناء الرسل في تبليغ رسالتهم إلى الناس، فقد تحملوا من الوظائف ما تحمله الأنبياء من غير فرق، حسبما تؤديه هذا النصوص، وهذا هو تحقيق مفهوم "الولاية" الثابتة للأنبياء أصالة، ثم للفقهاء الأكفاء امتداداً وتبعاً.
الحديث السادس:
مقبولة عمر بن حنظلة ـ على حد تعبير الأصحاب ـ قال: "سألت أبا عبد الله (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت ـ إلى أن قال ـ قلت: فكيف يصنعان: قال (ع): ينظران من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً؛ فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حد الشرك بالله"(105).
وإنما عبّروا عنها بالمقبولة لتلقي الأصحاب لها بالقبول وعملوا عليها واستندوا إليها في مسألة القضاء والإفتاء، حتى إن الشهيد الثاني في كتاب الأمر بالمعروف من المسالك ذكر استناد الأصحاب في مسألة جواز إجراء الحدود للفقيه إلى رواية حفص وضعفها، ثم أيّدها برواية عمر بن حنظلة، وأخيراً قوّاها؛ الأمر الذي يدل على مبلغ الثقة بهذه الرواية بحيث تصلح لوحدها سنداً لفتوى المشهور.
نعم غمز سيّدنا الأستاذ الخوئي في "عمر" نظراً لعدم توثيقه في كتب التراجم بالخصوص، لكن مجرد ذلك لا يصلح دليلاً لإسقاط الإسناد، على أن عمل الأصحاب برواياته واعتناؤهم به، وكذا رواية أصحاب الإجماع الإجلاء عنه مثل زرارة وهو من الستة الأوائل، وعبد الله بن بكير وهو من الستة الأواسط، وصفوان بن يحيى وهو من الستة الأواخر، و علي بن رئاب وهو الثقة الجليل من علية علماء الشيعة، ومنصور بن حازم وهو العين الصدوق من أجلة أصحابنا وفقهائهم، وأبو أيوب إبراهيم بن عثمان الخزاز الثقة الكبير المنزلة، وعلي بن الحكم الثقة الجليل القدر، وهشام بن سالم الثقة الثقة... كل ذلك لدليل واضح على مكانة الرجل ووثاقته واعتماد الأصحاب عليه قديماً وحديثاً، حتى إن الشهيد الثاني وثقه صريحاً كما في جامع الرواة. ومع ذلك فلا موضع للغمز في مثله إن لم يكن من الجفاء بشأن شخصية عالية من شخصيات أصحاب الأئمة (عليهم السلام).
وأما وجه الدلالة، فقد اعترف سيّدنا الأستاذ الخوئي (دام ظله) بتمامية دلالتها لإثبات ولاية القضاء للفقيه العادل(106). نعم أنكر دلالتها لإثبات الولاية العامة(107).
لكن دلالتها ـ كما فهمها الأصحاب جميعاً ـ واضحة، فإن قوله: "فإني قد جعلته عليكم حاكماً" هو بمنزلة تعليل الحكم وبيان كبرى كلية مستند إليها في إجابة السائل، إذا كان يكفي في الجواب إرجاع المتنازعين من الشيعة إلى فقهائهم. فذكر هذه الجملة زيادة على المقدار الكافي للجواب، دليل على عناية المعصوم (ع) بالخصوص لجهة تعميم شأن الفقهاء في المرجعية الكبرى للشيعة، بما يشمل مورد السؤال وغيره، كأنه (ع) يريد إبداء أن مثل هذه المسائل تتبيّن طرق حلّها بحلّ كلّي أساسي، هو نصب القيّم والوليّ للشيعة بشكل عام، وهم الفقهاء من الشيعة الأكفاء المنصوبون من قبل الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، مراجع وملاجئ، يتحملون مسؤولية الأمة على كافة أنحائها المحتاج إليها.
ثم بيّن (ع) أن أحكامهم نافذة وإطاعتهم واجبة على نمط إطاعة الإمام المفترض الطاعة، الأمر الذي يؤكد من تثبيت مقام ولايتهم و زعامتهم الكبرى على الأمة.
أما الخدشة في الدلالة المذكورة بإرادة القضاء من الحكومة لا مطلق الزعامة والحكومة بين الأمة، أو كون الإطلاق مستفاداً من ناحية المحمول، أو اختصاص الرواية بقاضي التحكيم(108)، كل ذلك لا موضع له أصلاً، إذ في تعبير الإمام (ع) بالحكم بدلاً من القضاء، مع تصريح السائل بالأخير (القضاء)، دلالة واضحة على إرادة التعميم حسبما بيّنا.
كما لا فرق في الإطلاق بين كونه في الموضوع أم في المحمول حسبما تقدم، وأما قاضي التحكيم فلا أساس له على اختيارنا حسبما شرحناه في مسألة القضاء(109).
الحديث السابع:
روى الصدوق بإسناد صحيح عن أبي خديجة سالم بن مكرم عن الإمام الصادق (ع) قال: "إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا، فاجعلوه بينكم قاضياً، فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه"(110). وهكذا رواه الكليني(111)، وفي نسخة صاحب الوسائل "يعلم شيئاً من قضايانا"(112).
وروى الشيخ أيضاً عن أبي خديجة، قال: "بعثني أبو عبد الله (ع) إلى أصحابنا، فقال: قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى بينكم في شيء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق؛ اجعلوا بينكم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر"(113).
أما الدلالة فلأن المستفاد من الحديث إعطاء ولاية القضاء للفقيه من قبل المعصوم (ع)؛ فللفقيه ولاية الحكم في كل ما ينبغي الرجوع فيه إلى ذوي الصلاح من مراجع الأمة الصالحين، وكان الناس (المسلمون عامة) يراجعون فيها إلى ولاة الجور مطلقاً في كل شأن من الشؤون؛ فإنه (ع) منع الشيعة منعاً باتاً من الرجوع إلى ولاة الجور إطلاقاً، ثم جعل لهم مرجعاً صالحاً يرجعون إليه ويكفيهم مؤونة الرجوع إلى سائر الحكام والسلاطين.
فالفقهاء العدول الأكفاء ـ وفق هذا النص ـ هم مراجع الأمة في جميع الشؤون التي كان يرجع فيها إلى القضاة والحكام والولاة بصورة عامة.
وهذا معنى كفاية مؤونتهم بوجود الفقهاء، فلا حاجة إلى الرجوع إلى غيرهم إطلاقاً، إذ لو كانوا مراجع في القضاء فقط، لكانت الحاجة إلى سائر الولاة باقية، مع تصريح النص بكفايتهم عن الرجوع إلى السلاطين بالإضافة إلى الحكام والقضاة جميعاً.
ومن ثم، فالصحيحة صريحة في كون الفقهاء العدول مراجع الأمة في جميع الشؤون، الإدارية والسياسية والاجتماعية بصورة عامة، ولا يجوز للأمة أن ترجع إلى غيرهم مع وجودهم وإمكان تصرفهم، فلا يزال الفقهاء هم حجج الله على الخلق منذ وقوع الغيبة الكبرى.
فالمستفاد من هذا الحديث الشريف أمور ثلاثة:
الأول: اعتبار الاجتهاد في مرجع الأمة (الفقيه الجامع للشرائط).
الثاني: ثبوت ولاية القضاء لهذا الفقيه باعتبار كونه منصباً.
الثالث: ثبوت الولاية العامة له باعتبار كونها خلفاً عن الإمامة.
أما الجهة الأولى:
فلأن ظاهر قوله (ع) "يعلم شيئاً من قضائنا، أو قضايانا" هو العلم الحاصل بالنظر والاجتهاد المعبّر عنه بالاستنباط. وهكذا قوله: "قد عرف حلالنا وحرامنا"، أي معرفة حاصلة من استنباطه الخاص، بقدرته على رد الفروع إلى الأصول، كما قال الصادق(ع): "إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا"(114). وقال الرضا (ع): "علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع"(115). والأسانيد صحيحة.
والتنوين في "يعلم شيئاً" للتفخيم أي كمية معتنى بها، فهو دليل على الاجتهاد المطلق ليؤهله للقيام بالقضاء بين الناس، وهكذا القيام بمرجعية الأمة لحل مشاكلهم على الإطلاق، وذلك لأن الاجتهاد ـ على ما فسّرناه في مباحث القضاء ـ هو الاستنباط الفعلي، لا مجرد ملكة الاستنباط؛ لأن القدرة على الشيء غير حصوله، مع العلم أن الشرط هو فعلية الاجتهاد، حسب قوله (ع) "نظر" "عرف" "علم".
ومن ثم، فالاجتهاد المطلق، بمعنى حصول الاستنباط فعلاً في جميع الفروع على نحو الاستغراق الحقيقي، شيء غير ممكن عادة؛ وإنما الممكن عادة، هو حصوله في معظم الأحكام وأمهات المسائل والفروع، الأمر الذي يعنيه قوله "يعلم شيئاً... الخ".
والمناقشة في ذلك بأن علوم الأئمة(ع) وإن لم تكن قابلة للإحاطة بها، إلاّ أن قضاياهم وأحكامهم في موارد الخصومات قابلة للإحاطة بها ولا سيما لمن كان في عهدهم...(116) لا موضع لها، لأن الخصومات ـ وهي متنوعة بحسب مواد الاختلاف ـ ليس لها موارد خاصة محصورة في إطار محدود، ليمكن الحصول عليها بسهولة، بل مواردها منتشرة انتشار مواد الاختلاف في مطلق أبواب المعاملات، بل ومعظم أبواب العبادات، فضلاً عن أحكام الانتظامات وما شاكلها، بحيث كانت الإحاطة على بمواردها تستدعي الإحاطة الكاملة بمعظم أبواب الفقه من معاملات وعبادات وانتظامات كما لا يخفى.
وأما الجهة الثانية
وهي (ولاية القضاء) بسمة كونها منصباً شرعياً، فهي المستفاد من ظاهر قوله (ع) في صحيحة أبي خديجة: "فإني جعلته عليكم قاضياً". وقوله في مقبولة عمر بن حنظلة: "فإني قد جعلته عليكم حاكماً". لأنه نصب عام صدر من المعصوم (عليه السلام) لكل فقيه جامع للشرائط.
ولأن القضاء لو كان مثل الإفتاء في عدم كونه منصباً رسمياً في الشرع، لما كان بحاجة إلى الإذن أو النصب من قبل الإمام المعصوم، إذ لم يقل أحد باحتياج الإفتاء إلى الإذن من وليّ المسلمين، بل التقليد سيرة عقلائية في رجوع الجاهل في كل فن إلى العالم به، وقد قرّره الإسلام كسائر عادات العقلاء غير المردوعة شرعاً.
أما القضاء، فالإجماع منعقد إلى احتياجه إلى إذن رسمي، إن عاماً أو خاصاً، الأمر الذي يجعله منصباً لا محالة.
هذا وقد كان قضاة ذلك العهد يتصدون منصب القضاء بعنوان كونه ولاية، وكانت تخوّلهم حق نصب القيّم على القصّر والغيّب بعنوان الولاية على ذلك، دون مجرد الوكالة أو بعنوان (القدر المتيقّن) الذي قاله سيّدنا الأستاد الخوئي (دام ظله).
ويدل على ذلك ما في صحيحة ابن بزيع، قال: مات رجل من أصحابنا ولم يوص، فرفع أمره قاضي الكوفة، فصيّر عبد الحميد القيّم بماله، وكان الرجل خلف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري، فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهن، إذ لم يكن الميت صيّر إليه وصيته، وكان قيامه فيها بأمر القاضي، قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر (ع) وقلت له: فما ترى في ذلك؟ فقال: "إذا كان القيّم به مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس"(117).
فقد كان القضاة ينصبون القيّم بعنوان ولايتهم على النصب، فكان ذلك شيئاً معهوداً من شؤون القضاء. وعليه فإذا منح الإمام (ع) حق القضاء لفقهاء الشيعة، فقد خوّل إليهم جميع ما كان يرجع فيه إلى القضاة في ذلك العهد. ومعنى ذلك هو إعطاء حق ولاية القضاء، نظير ما كان لسائر القضاة.
وناقش في ذلك سيّدنا الأستاذ الخوئي (دام ظله) بأن الثابت للفقيه وفق هذه الصحيحة هو منصب القضاء، وهو شيء آخر غير أمر الولاية، لأنها خارجة عن مفهوم القضاء؛ فقد دلّتنا الصحيحة على أن الشارع نصب الفقيه قاضياً نافذاً حكمه في المرافعات وفصل الخصومات، ولا دلالة لها بوجه على أن له ولاية على نصب القيّم والحكم بثبوت الهلال ونحوه.
قال: وقد كان الخلفاء ذلك العهد يعيّنون للقضاء أشخاصاً، وللولاية أشخاصاً آخرين، كما كانت هي العادة قريب عصرنا أيام الحكومة العثمانية(118).
لكن الاعتراف بكون القضاء منصباً رسمياً في الشريعة ومحتاجاً إلى إذن ونصب من قبل وليّ المسلمين، إن عاماً أو خاصاً، وكذلك الاعتراف بنفوذ قضاء القاضي المنصوب، كل ذلك متنافٍ مع إنكار مقام ولايته، إذ لا معنى للولاية إلاّ كونها منصباً رسمياً نافذاً قضاؤه نفوذاً موضوعياً، بما لا يشبه مسألة الإفتاء في شيء من خصوصياته وميزاته.
هذا مضافاً إلى معهودية تصدّي النصب والحكم بثبوت الهلال بسمة كونه من شؤونه الولائية النافذة، في ذلك العهد وفي سائر العهود حتى في عصرنا الحاضر، إذ كل ذلك معروف من شؤون القضاة الرسميين في جميع الأقطار الإسلامية، امتداداً للعادة المألوفة الجارية منذ الصدر الأول.
وقد عرّف الشهيد الأول (قدس سره) القضاء بأنه "ولاية شرعية على الحكم في المصالح العامة من قبل الإمام"(119)، وقد توافق عليه الأصحاب على ما أسلفنا في مباحث القضاء، ودلّلنا عليه بكثير من الآيات والروايات، منها قوله تعالى: {يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس}(120).
وقوله: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس}(121).
وقول علي (ع) "مجلس لا يجلسه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ"(122).
كل ذلك لدليل على أن القضاء امتداد لولاية الله وخلافته في الأرض، فهو جزء أصيل من النبوة والإمامة، ويكون المتصدي له متصدياً لشؤون النبي والإمام، وشاغلاً لمنصب من مناصبهما؛ ومن ثم فهو بحاجة إلى إذن ونصب من قبلهما، ولا يجوز لأحد أن يتصدى لهذا المنصب الخطير بلا إذن صريح، إن عاماً أو خاصاً، وإلاّ فهو غاصب وحاكم جائر.
أما الجهة الثالثة،
أي دلالة الصحيحة والمقبولة على ثبوت مطلق الولاية للفقيه المعبّر عنه بالولاية العامة، فقد ظهر وجهه في مفتتح الكلام عن الدلالة، حيث المستفاد من الحديث "فإني قد جعلته قاضياً أو حاكماً" هو إعطاء عموم الولاية للفقيه، في جميع الشؤون التي يمكن الرجوع فيها إلى القضاة والحكام والسلاطين، لأن الإمام (ع) منع الشيعة منعاً باتاً من الرجوع في شؤونهم إلى ولاة الجور، ثم جعل لهم مرجعاً يكفيهم مؤونة الرجوع إلى تلكم الولاة، بأن جعل الفقهاء العدول من الشيعة مراجع لهم يرجعون إليهم في كافة شؤونهم، قضاءً وحكومة وسائر شؤون إدارة البلاد وسياسة العباد.
وذلك كأن السائل سأل عن المخرج فيما يرجع فيه إلى شؤون القضاء فقط، لكن الإمام (ع) طرح المسألة على صعيد أوسع، فتكلم عن مطلق الشؤون التي يرجع فيها إلى السلاطين وإلى الحكام وإلى القضاة. فكأنه (ع) حاول إلفات نظر الشيعة إلى ناحية أهم، كانت تمس حياتهم الاجتماعية في كافة شؤونها، وإن المسألة لا تنحصر في حاجة القضاء فحسب، بل الأعم منها الشامل لمطلق إدارة المجتمع الشيعي في كل عصر يسطو عليه سلطان الجور ولم يتمكنوا من اللجوء إلى أحضان عدل الإمام المعصوم.
هذا.. ومن ناحية أخرى فإن هذه الجملة "فإني قد جعلته قاضياً أو حاكماً" ألقيت بصورة كبرى كلية، دليلاً على مستند الجواب، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد.
ومضافاً إلى أن القضاء والحكم مستعملان في القرآن الكريم في مطلق الحكم السياسي وغيره:
قال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}(123).
ومورد الآية الكريمة هو الشؤون السياسية المرتبطة بإدارة البلاد، وهي تعني مسألة ولايته (ص) {النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم}(124).
وقال تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا}(125).
فهذا القضاء والحكم الذي كان ثابتاً للنبي (ص) بنص الكتاب العزيز والسنة القطعية، فإنه ثابت لوليّ المسلمين الشرعيّ، الإمام المعصوم في عصر حضوره (ع)، ثم للفقيه العادل في عصر الغيبة، بنص الصحيحة والمقبولة وغيرهما من نصوص معتبرة، وهي ولاية شرعية ممتدة من ولاية النبي والإمام المعصوم (ع).
الحديث الثامن:
التوقيع الشريف الذي تلقاه الأصحاب بالقبول وذاع صيته بين الخاصة والعامة بحيث أصبح رمزاً للشيعة وشعاراً يمتازون به.
روى شيخ الطائفة هذا التوقيع في كتاب الغيبة بإسناد فيه إكبار وعظمة، قال: أخبرني جماعة، عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الزراري وغيرهما، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق ابن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رحمه الله) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الأمر (الدار) وفيه "... وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجة الله عليكم ..."(126).
هذا التوقيع رواه الشيخ عن جماعة عن جماعة؛ والجماعة الأولى هم مشايخه أمثال الشيخ المفيد وابن الوليد القمي وابن بابويه الصدوق وغيرهم من أعلام الشيعة، والجماعة الثانية هم ابن قولويه و أبو غالب الزراري وغيرهما، عن ثقة الإسلام وقطب مدار الشيعة محمد ابن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب...
فالسند إلى إسحاق هذا صحيح لا مغمز فيه، إنما الكلام في إسحاق صاحب التوقيع.
قال المحقق الرجالي المعاصر الشيخ محمد تقي التستري: هو أخو الكليني وشقيقه، وفي رواية الإكمال: "والسلام عليك يا إسحاق ابن يعقوب الكليني"(127). وعليه فهو إسحاق بن يعقوب بن إسحاق أخو الكليني الأكبر، وقد تسمى باسم جده كما هي العادة في تسمية الولد الأكبر باسم الجد. وقد عد من أشياخه(128) مما يؤكد كونه أخاه الأكبر.
وقال ابن حجر: إسحاق بن يعقوب من رجال الشيعة، وحكي أنه خرج له توقيع من الإمام صاحب الوقت، يخبر فيه عن أشياء، ومن جملتها أن الخمس حلال للشيعة خاصة. روى عنه سعد بن عبد الله القمي(129).
وسعد بن عبد الله القمي شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها، جليل القدر عظيم المنزلة كبير الشأن، لا يروي إلاّ عن ثقة، معتمد عليه في الحديث. وهذا بنفسه دليل على وثاقة الرجل. كما اعتمد عليه الكليني والشيخ والصدوق(130) والطبرسى(131) وغيرهم، فنقلوا التوقيع عنه معتمدين عليه وأرسلوه إرسال المسلمات. وقد عرفت تلقي الأصحاب له بالقبول. ولعل في ذلك كله كفاية.
وهذا التوقيع رواه الصدوق عن محمد بن محمد بن عصام الكليني عن محمد بن يعقوب الكليني. ومحمد بن محمد بن عصام هو طريقه إلى الكليني وإلى جميع كتاب الكافي، كما ذكره في آخر الفقيه(132).
أما فقه الحديث، فالمقصود من "رواة الحديث" هم الوعاة ممن اهمّتهم الرعاية والدراية، لا مجرد النقل والرواية، قال الصادق (ع): "رواة الكتاب كثير ورعاته قليل، فكم من مستنسخ للحديث مستغش للكتاب؛ والعلماء تحزنهم الدراية، والجهّال تحزنهم الرواية"(133).
وعليه فالمقصود هم الفقهاء الذين يمكنهم فهم معاريض كلام المعصومين (عليهم السلام) والمستنبطون الذين يمكنهم ردّ الفروع إلى الأصول الملقاة من قبلهم (عليهم السلام)، وهذا واضح.
وهكذا المقصود من "الحوادث الواقعة" مطلق شؤون الأمة مما يمس حياتهم الفردية والاجتماعية، الإدارية والسياسية، بمقتضى إفادة الجمع المحلى باللام للعموم الوضعي، إذ لا وجه لاختصاص هذا اللفظ بالمسائل الفرعية المبتلى بها للأفراد خاصة، بل يشمل الحوادث الطارئة بالنسبة إلى الحياة الاجتماعية في نظم الأمور وجمع الكلمة وحفظ كيان الإسلام والمسلمين.
وكذلك المقصود من "حجّتي عليكم" هو الولاية المطلقة الثابت نظيرها للإمام المعصوم (ع)، حيث أردفه بقوله "وأنا حجة الله عليكم". فبتلك السعة والشمول التي تفيدها اللفظة عندما ننسبها إلى الإمام، بنفس ذلك المعنى تفيد اللفظة عندما ننسبها إلى الفقيه.
ففي هذه المقارنة عناية خاصة لاحظها الإمام (ع) نظير مقارنة النبي (ص) قوله "ألست أولى منكم بأنفسكم" بقوله "فمن كنت مولاه فعلي مولاه" دليلاً كاشفاً عن مقصوده من اللفظة، كيلا يتشكك المتشككون في المعنى المراد.
قال الشيخ: المراد بالحوادث ـ ظاهراً ـ مطلق الأمور التي لابدّ من الرجوع فيها عرفاً أو عقلاً أو شرعاً إلى الرئيس، وأما تخصيصها بخصوص المسائل الفرعية فبعيد من وجوه:
منها: أن الظاهر إيكال نفس الحادثة إليه ليباشر أمرها مباشرة أو استنابة، لا الرجوع في حكمها إليه.
ومنها: التعليل بكونهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، فإنه إنما يناسب الأمور التي يكون المرجع فيها هو الرأي والنظر، فكان هذا هو منصب ولاة الإمام من قبله، لا أنه واجب على الفقيه من قبل الله بعد غيبة الإمام، وإلاّ كان المناسب أن يقول: إنهم حجج الله عليكم. كما وصفهم في مقام آخر بأنهم أمناء الله على الحلال والحرام.
ومنها: أن وجوب الرجوع في المسائل الشرعية إلى الفقهاء كان من البديهيات التي لا تخفى على مثل إسحاق بن يعقوب، حتى يكتبه ضمن مسائل أشكلت عليه.. بخلاف الرجوع في المصالح العامة، فإنه يحتمل أن يكون الإمام (ع) قد عيّن شخصاً أو جهة للرجوع إليه.
قال: والحاصل أن لفظ "الحوادث" ليس مختصاً بما اشتبه حكمه (الإفتاء) ولا بالمنازعات (القضاء) بل الأعم منهما(134).
الحديث التاسع:
روى محمد بن عمر الكشي في مقدمة رجاله بإسناد صحيح عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله(ص): "يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد"(135).
قوله "يحمل هذا الدين" أي يتحمل مسؤوليته على أنحائها المعهودة تبليغاً وبياناً وتفسيراً وتعهداً في مطلق الشؤون، مهما وافقت الأقدار وتمكنت الأحوال، إذ ليس معنى نفي التأويل والتحريف، نفيه جدلاً وفي مجالات البحث الكلامي، إنما المقصود هو مجال العمل والتطبيق، حيث المخالف يحاول تحويراً في أسس الدين في مرحلة تطبيقه العملي؛ لكن المسؤولين العدول يقفون في وجهه وقفة حازم صمود، فيدافعون عن الإسلام وعن كيان المسلمين مدافعة الأحرار، ويردون كيد الخائنين إلى نحورهم، وبذلك يشكلون سداً منيعاً وحصناً رفيعاً دون تطاول أيدي المعتدين. ومن ثم فإنهم حصون الإسلام كحصن سور المدينة، كما مرّ في حديث الإمام موسى بن جعفر (ع)(136). وهذا معنى ولايتهم على الإسلام والمسلمين، لأنها هي نفس تحمل المسؤولية بياناً وحفظاً ودفاعاً في جميع صوره وإشكاله.
الحديث العاشر:
روى ثقة الإسلام الكليني بإسناد صحيح عن الإمام الصادق (ع) قال: "إن الله لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لم يعرف الحق من الباطل"(137). فلا يخلو عصر إلاّ وفيه عالم مسؤول عن بيان الحق ورد الباطل، مسؤولية في مجال العمل الفعال، لا مجرد الجدل والكلام. كما قال (ع) في حديث آخر: "إن الأرض لا تخلو إلاّ وفيها إمام، كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردّهم وإن نقصوا شيئاً أتمّه لهم".
وفي قوله "ردّهم" دلالة على ضرورة بسط يده في القدرة على ضرب يد المتعدي. فالإمام القائم بين الخلق هو الذي يقوم بعملية الرد والكمال؛ فإن تجاوز المسلمون ردّهم إلى الحق، وإن هم أبطأوا في السير على المنهاج القويم قادهم إلى الأمام وإلى الاستقامة والكمال.
وهذا هو معنى "سياسة العباد وإدارة البلاد".
والأحاديث بهذا المضمون كثيرة