بقلم: آية الله حسين مظاهري
إن الحكومة للبشر أمر ضروري عقلي، حيث إن المجتمع بدون حكومة يوجب الهرج والمرج، فالحكومة هي التي تنظم أمور الفرد والمجتمع، وتجري الحدود والحقوق، وتؤمن عزة واستقلال المجتمع الانساني، وهي أساس توسعة وتكامل العلوم والفنون البشرية، وهذا المطلب من الامور البديهية ولا يحتاج إلى إقامة البرهان.
ومن طرفٍ آخر فقد عدت الاديان الالهية أيضاً، وخاصة دين الاسلام المبين الحكومة أمراً ضرورياً ولازماً لحياة البشر ويؤكد ذلك الضرورة العقلية، وكمثال هناك رواية الفضل بن شاذان التفصيلية التي نقلها عن الامام الرضا (عليه السلام) والتي هي كافية في هذا المجال.
وفي الواقع فإن الحكومة والنظام والسياسة هي الوسيلة والآلة لاجراء اهداف الانبياء، ومن هذه الجهة نرى أن كل واحد من هؤلاء العظماء الذين وفقوا إلى تشكيل الحكومة كالنبي داود والنبي سليمان (عليهما السلام) ونبينا الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، نرى إلى أي حدٍّ كانوا موفقين لنيل أهدافهم الالهية والوصول إليها.
وفي المقابل نرى أن من لم يمتلك منهم هذه الوسيلة كم كان مسير حركتهم صعباً، وكم عانوا من الضيق في سبيل الوصول إلى أهدافهم.
وعليه فليس هباءً إيجاد الطواغيت وأعداء الاديان على مر التاريخ للموانع والمشكلات في طريق إيجاد حكومات الصالحين، وقد كانوا يسعون دائماً إلى إسقاط حاكمية الصالحين على الارض.
وحيث إن دين الاسلام المبين من بين كل الاديان الالهية له عمومية أبدية وإلى القيامة بالنسبة لكل فرد وكل زمان ومكان، وهذه العمومية للامور الثلاثة من الضروريات والبديهيات في نظر القرآن الشريف والروايات، لذا فالاسلام من دون ترديد له حكومة في زمن غيبة الامام المعصوم (عليه السلام)، خاصة وأن الاسلام دين عبادي وسياسي ولا تتلخص أحكامه المقدسة في العبادات والمسائل الشخصية، وكما هو الحال في زمن الحضور فقد عين ونصب في زمن الغيبة حاكماً وزعيماً لادارة الحكومة حتى يرجع إليه المسلمون في الامور الاجتماعية والحوادث الطارئة. ولذا فإن أستاذنا المعظم الامام الخميني (قدس سره) يصرح بالقول في هذا المجال بأن "كل من يرى أنه لا ضرورة لتشكيل الحكومة الاسلامية فإنه منكر لضرورة إجراء الاحكام وعموميتها ومنكر لديمومة وخلود دين الاسلام المبين".
و هذا المجال أيضاً، يقول استاذنا المعظم المرحوم آية الله العظمى البروجردي (قدس الله روحه): وحيث إنه كانت هناك روايات كثيرة عند الشيعة المتقدمين لم تصل إلى أيدينا، لذا فإنه نستكمن اتفاق واجماع الفقهاء على فتوى واحدة بأنه كانت في أيديهم رواية كاملة وصحيحة من جهة السند والدلالة لم تصل إلينا على مر الزمن.
ثم انه أصلاً لا يمكن أن يكون هناك دين ذكر كل الجزئيات العبادية والسياسية والمعاملاتية وترك مسألة ذات أهمية وضرورة مثل الحكومة.
وربما يكون أحد الاسباب لعدم وصول تلك الروايات إلينا هو سعي الطواغيت وحكام الجور لعدم تشكيل وقيام حكومة الصالحين، ومن هذه الجهة ولاجل الوصول إلى هذا الهدف فقد سعوا إلى محو أفكار وآراء الائمة الطاهرين (عليهم السلام). ورغم ذلك فانه يوجد بأيدينا الكثير من المجاميع الروائية والحديثية، نظير حادثة الغدير المباركة، فإنه رغم كل سعي الطواغيت لمحو الآثار الغديرية يوجد بأيدينا آثار عظيمة عن تلك الحادثة بنقل المعصومين (عليهم السلام).
وبناءً على هذا، فعندما نرى من طرفٍ أن الاسلام له حكومة من دون ترديد في زمن غيبة الامام المعصوم (عليه السلام)، ونعلم من طرف آخر ان الحكومة في الاصل هي للذات الالهية المقدسة، ومن ثم لكل من يعطيها الله، لذا فإننا ندرك أن الشخص الذي له حق الحكومة يجب أن يكون منصوباً من قبل الله لاحراز هذه المسؤولية، حيث إن توحيد الله تعالى في "خالقية الوجود" ملازم ومستلزم لتوحيده في "الخالقية على الوجود"، وكل الحاكميات الاخرى هي بالعرض ولابد أن تنتهي الى حاكمية الله والتي هي حاكمية بالذات.
وعليه فالحكومة في نظر الانسان الموحد يجب أن تكون بالنصب من قبل الحاكم المطلق على عالم الوجود أي الله سبحانه وتعالى، وهذا المطلب المهم يشير إلى أنه إذا كانت هناك أفكار ترى أن الحكومة هي من قبل الجهة السفلية فلن تكون هذه الافكار أفكاراً توحيدية، لانه بناءً على التفكير التوحيدي فإن الحكومة هي لله أولاً ومن ثم لكل من يعطيها الله.
وفي النتيجة، فإن الحكومة أمر يأتي من الاعلى لا من الاسفل، ويجب أن نرى بالدقة لمن اُعطي هذا الاختيار؟ وعليه فالحكومة الدينية تكون "بالنصب والتعيين" وليست "انتخابية"، والروايات والادلة عينت ونصبت هذه الحكومة. ثم ان أهل الخبرة بناءً على هذه الادلة يشخصون ويكشفون مصداقاً لهذا النصب، ولو كان هناك مصداقُ ما تولى زمام الامور بنفسه فتتعين فيه هذه السمة كما اتفق ذلك في الجمهورية الاسلامية الايرانية وفي خصوص الامام الخميني (أعلى الله كلمته).
وخلاصةً نقول: إن مسألة الحكومة في زمان غيبة إمام العصر (عليه السلام)، وموضوع ولاية الفقيه هما من المسائل التي ــ وبالتعبير الجميل لاستاذنا العظيم الشأن الامام الخميني (أعلى الله كلامه) ــ "تصورها موجب لتصديقها".
ولذا نرى صاحب الجواهر (قدس سره) والذي يعد كتابه القيم من الوسائل المهمة للمراجع والمجتهدين يدعي الضرورة حول ولاية الفقيه أيضاً في عدة موارد، ومن جملتها ما ورد في كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إن له بياناً مفصلاً يقول فيه "من الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً، ولا تأمل المراد من قولهم (عليهم السلام) في الادلة الواردة…
وعليه، فما تقدم معنا تقريرٌ إجمالي عن أحد الطرق لاثبات موضوع الحكومة والزعامة بعد غياب النبي وأهل البيت (عليهم السلام) والذي يعبر عنه باصطلاح علم الاصول "الكشف العقلي".
هذا ويوجد طريق وتقريب آخر لاثبات هذا الموضوع عن طريق علم الكلام، وهو التمسك بقاعدةٍ يطلق عليها في الاصطلاح الكلامي "قاعدة اللطف".
وبيان المطلب أن نقول وبشكل منطقي أن إرسال وبعثة الانبياء وكذلك تعيين ونصب أوصيائهم "فيض ولطف" لأن له دوراً أساسياً وتاثيراً مهماً في سعادة كمال الناس، وكل فيض ولطف لازم وواجب على الله الفياض على الاطلاق، لأن المنع عن الفيض واللطف بخل والله تعالى منزه عن البخل وكل صفة لا تليق به.
ولذا نستنتج أن بعثة الانبياء وتعيين خلفائهم لازم وواجب على الله، وهذا البرهان العقلي والشكل الاول المنطقي له دلالة على نصب الزعيم والقائد في زمان الغيبة بتقريب مفاده أن نصب الزعيم في زمان الغيبة فيض ولطف، لان حفظ النظام في المجتمعات الاسلامية وإجراء قوانين الاسلام وخاصة القوانين الاجتماعية والسياسية، وبيان أحكام الاسلام وتطبيق كلياتها على الامور والحوادث الواقعة كل ذلك يحتاج إلى حضور الزعيم والقائد وبدونه يؤدي إلى الهرج والمرج في النظام. وحيث إن كل فيض ولطف لازم على الفياض على الاطلاقن لذا فإن تعيين ونصب الزعيم من قبل الله تعالى في زمان الغيبة لازم وواجب أيضاً.
وحيث إن هذا النصب في غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) لا يمكن أن يكون بصورة "فردية" بل لابد أن يكون بصورة "عنوانية"، وبتعبير آخر فإن النصب ليس بواسطة "التنصيص" بل بواسطة "التوصيف"، ومن الممكن أن يكون لهذا الوصف والعنوان مصاديق متعددة، لذا فإن الناس بواسطة أهل الحل والعقد أي المتخصصين والخبراء والعارفين بالحكومة يشخصون ويكشفون من بين هذه المصاديق عمن هو حائز للشرائط الكاملة، كما يستفاد ذلك من الروايات المعتبرة ومن جملتها مقبولة عمر بن حنظلة ــ وهذه أيضاً إحدى الطرق لاثبات موضوع الحكومة والولاية عند غياب المعصومين (عليهم السلام) ويطلق عليها الدليل النقلي ــ حيث ورد عن أئمة الهدى (عليهم السلام) أنه في زمان عدم الوصول إلى الامام المعصوم (عليه السلام) قد نصبوا الفقيه الجامع لشرائط الحكومة، وعلى العارفين بالحكومة في كل زمان كشف وتشخيص وتعريف هذا المصداق.
ولو تقدم لذلك أحــد الفقهاء بنفســه يكون هو ولي الامــر، إذ التعدد موجب للهرج والمرج وفقدان الانسجام الوطني للدولة. وبناء على هذا وفي الحقيقة فإن انتخاب الناس عنوان ثانوي وليس حكماً أولياً.
وعليه يمكن القول بناءً على أدلة النصب أن وظيفة أهل الحل والعقد في النظام المقدس للجمهورية الاسلامية الايرانية والذين هم (مجلس الخبراء) هو كشف وتشخيص الولي الفقيه.
وبعبارة اخرى فإن مسؤولية الخبراء هو كشف اجتماع شرائط الولي الفقيه في شخص خاص وتعريفه للمجتمع الاسلامي وليس جعل مقام الولاية، أو إنشاء نصب الولي، أو إعطاء مقام مجعول للفقيه الواجد لشرائط القيادة. وعلى هذا الاساس فإن ما يقال من أن القائد ينتخب من قبل الخبراء والناس هو أمر غلط وغير صحيح.
وكذلك فإن الشبهة التي يقال على طبقها بأن (دلالة الروايات المذكورة على نصب الفقهاء للحكومة والولاية محل إشكال، وحتى مقبولة عمر بن حنظلة على فرض أن مفادها النصب أيضاً والذي هو أيضاً محل اشكال، لا تدل على أكثر من منصب القضاوة) هي إشكال غير وارد وادعاء بلا وجه ورد ذلك ونقده موكول إلى محله والكتب المفصلة، ولكن إجمالاً يجب الاشارة الى أنه إذا أردنا تخصيص مقبولة عمر بن حنظلة بامر القضاء فنتيجة ذلك هو عدم المماثلة بين سؤال السائل وجواب الامام (عليه السلام). وفي الحقيقة سيكون الجواب ناقصاً بالنسبة للسؤال وأجنبياً عنه وحتماً، فإن المقام لا يسع لتفصيل هذه المطالب.
وبناءً على ما قدمناه إلى الآن بصورة الاجمال والاختصار يمكن القول في الجواب عن السؤال المطروح بانه ليست فقط من الجهة الفقهية ــ وبعبارة اخرى الدليل النقلي والروائي الصرف ــ بل ومن الجهة العقلية وأيضاً من الجهة الكلامية فإن دين الاسلام المبين له حكومة ونظام حكومتي، والولاية والزعامة في الحكومة الدينية هي بنحو النصب والتعيين، وحتما فإن الادلة الثلاثة والتي بينت باختصار لها تفاصيل وردت في الكتب المفصلة، ونحن أيضاً قد بينا هذه الادلة بالتفصيل في الفصل الثاني من كتاب (المقايسة بين الانظمة الاقتصادية) عند البحث عن الحكومة والولاية في الاسلام، ويمكن للراغبين بذلك الرجوع إليها ومراجعتها. وإضافة الى ذلك فإن هناك براهين وأدلة نقلية اخرى موجودة بهذا الخصوص، وقد ورد قسم من تلك الادلة في ذلك الكتاب، وتفصيل هذه الادلة والتي تدل تماماً على الولاية المطلقة للفقيه بصورة (النصب) من قبل الشرع المقدس، والجواب على الاشكالات المختلفة التي طرحت حول ذلك، وأيضاً مناقشة ورد ادعاء وجود الروايات المعارضة كل ذلك يعد من المباحث العلمية المفصلة التي لا يسعها المقام، وقد تعرضنا بصورة مفصلة لها في سنة تحصيلية من دروس الخارج "الفقه" وهي الآن على باب التحقيق والطبع.
وفي الختام نضيف في الجواب عن السؤال الاول لتكميل الادلة المتقدمة، فنقول: إن مفاد هذه الادلة الثلاثة يفهمنا بان الاسلام له حكومة، والحاكم فيها هو الامام المعصوم (عليه السلام). وأما في زمان الغيبة فقد نصب الامام المعصوم (عليه السلام) وعين زعيماً وقائداً، ولكن من هو هذا الزعيم؟ هذا المطلب نستفيده من قاعدة اخرى يعبر عنها في اصطلاح علم الاصول بقاعدة القدر المتيقن، وهذه القاعدة تدل في المقام على أن الزعيم يجب أن يكون فقيهاً جامعاً للشرائط، أي أنه متخصص في العلوم الاسلامية ومتعهد للعدالة والتقوى ولائق للمديرية والتدبير. كما أن العقل أيضاً يحكم بان مثل هذا الشخص مقدم على الآخرين، لان الناس في المعارف الاسلامية إما أصحاب نظر أو لا، وقطعاً فإن أصحاب النظر أولى لامر الحكومة الاسلامية. وعلى الاول إما عدول أو لا، وقطعاً الاعدل أولى للحكومة. ومن كان عالماً وعادلاً إما أن يكون لديه لياقة قدرة وادارة المجتمع الاسلامي أو لا، وقطعاً فإن من لديه القدرة على الادارة والتدبير أولى للزعامة والقيادة. وبناءً على هذا فإن الزعامة في الاسلام مختصة بالفقيه العادل القادر.