الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.بناء المسجد النبوي الخطوة الأولى في مجتمع المدينة النبوية:
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقد وصلنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ما إن وطئت قدماه أرض المدينة حتى سارع إلى بناء المسجد، وهناك ثقافات أخرى تُسارع إلى بناء المسرح، وكل ثقافة أرضية هناك شيء كبير عندها، أما المسلم فروحه في المسجد.
لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحد السَبْعَةِ الذين يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ:
(( وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ))
ماذا يعني بناء المسجد النبوي ؟
لذلك في هذا اللقاء الطيب حديث عن دور المسجد في الإسلام.
أولاً: لأن النبي معصوم، ولأن سنته أقواله، وأفعاله، وإقراره، فماذا يعني بناء المسجد، وماذا كانت صفات مسجد رسول الله ؟
1- المسجد هو الهيئة العليا في الإسلام:
أولاً: بناء مسجد المدينة كان أول عمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، لأن المسجد يحتل أعلى مكانة في المجتمع الإسلامي، فهو مكان العبادة، ومكان طلب العلم، ومكان لقاء المسلمين، الآن موقع هذا المسجد كان في مركز المدينة، كان يتوسط المدينة المنورة.
2- المسجد النبوي كان في الوسط الهندسي للمدينة النبوية:
أحياناً يكون المسجد الأول في طرف القرية، وهذا خطأ كبير، المسجد يجب أن يكون في الوسط الهندسي، وهل تصدقون أن بيت الله الحرام يقع في الوسط الهندسي للأرض في الوسط الهندسي للعالَمين القديم والجديد، فلو أخذنا العالم القديم، وأخذنا أطراف العالم القديم ووصلنا بين الأطراف بأقطار، يكون مكان تقاطع الأقطار هو بيت الله الحرام، ولو أخذنا العالم الجديد، وأخذنا أطراف العالم الجديد، ووصلنا بينها بالأقطار يكون مكان تقاطع الأقطار هو بيت الله الحرام، ولا يقابل بيتَ الله الحرام موقعٌ بري في طرف الأرض الآخر، طبعاً في هذه المسألة بحث مطول، وأراه أنا من الإعجاز العلمي ؛ أن موقع مكة المكرمة هو الوسط الهندسي للعالَمين القديم والجديد، فإن مكة تبعد عن أي نقطة في أطراف العالم القديم 8500 كم، وتبعد مكة المكرمة عن أي نقطة متطرفة في العالم الحديث 13 ألف كيلومتر، فمكة المكرمة بهذا الاعتبار وسط هندسي للعالَمين القديم والجديد.
3- المسجد له رسالة شاملة:
كان هذا المسجد على تواضعه مركز النشاط العام العمراني، والاقتصادي والاجتماعي، والتربوي، والسياسي، والعسكري.
مع الأسف الشديد جداً فإن بعض المساجد للصلاة فقط، المسجد له ـ ولا أبالغ ـ مئات الوظائف، للصلاة، ولإلقاء الدروس، وللمشاورة، المسجد له رسالة، وما لم يستعد المسجد رسالته فلن ينهض المجتمع الإسلامي، رسالته مكان يجمع المؤمنين، يجمعهم للعبادة، ولطلب العلم، وللتشاور، وللتعاون، من أجل أن يؤدي المسجد رسالته.
المسجد النبوي كان بسيطاً، أنا أتمنى أن يكون مسجدنا بسيطاً.
أعرف مسجدا كنت أدرس فيه في دمشق، واسع جداً، جدرانه مطلية بطلاء جيد ، فيه إضاءة جيدة، وتدفئة جيدة، وتكييف جيد، و مكبِّر صوت جيد، لكن ما فيه زخرفة، لذلك هناك محسنون لا يدفعون في بناء المساجد إلا على الهيكل فقط، لئلا يتورط من يشرفون على بناء المسجد بزخرفة غالية جداً.
أنا أذكر مسجدا من أجل آيات تزين جدرانه دفعِت ملايين الليرات، ومكن بثمن هذه الزخرفة لجدرانه أن ننشئ مسجدين بالمبلغ نفسه.
أول صفة: ينبغي أن يكون المسجد مريحاً، فيه تدفئة شتاء، وتبريد صيفاً، وفيه ماء بارد، وماء ساخن للوضوء في الشتاء، وفيه نقل صوت جيد، وفيه إضاءة جيدة فقط، هذا المطلوب، فما فوق ذلك يمكن أن ينفق في بناء مسجد آخر، فصفة هذا المسجد أنه كان بسيطاً، من حيث مواده الأولية، وفي الوقت نفسه كان هذا المسجد معهد إعداد رجال، فقد ترك النبي عليه الصلاة والسلام أبطالا، أين تربوا ؟ في المسجد، المسجد يبني نفوس المؤمنين.
لذلك المؤمنون في مساجدهم كالسمك في الماء، والمؤمن يحب الله، ومن فروع محبة الله محبة المساجد، فهو يرتاح في المسجد، ولما يصلي.
إذا سافرت إلى بلد، ودخلت إلى مسجد تقضي حاجة، ثم تتوضأ، وتصلي فإنك تستريح راحة كبيرة جداً.
كتعريف دقيق: كان المسجد معهداً لإعداد الرجال، وبناء المجتمع، فكيف تبني بناء من أساس، الطابق الأول، الثاني، لبنة، لبنة، دعامة، دعامة، المسجد يبني المؤمنين، يبني عقيدتهم، يبني منهجهم، يبني نفوسهم، يبني تصوراتهم، يبني آمالهم.
كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم دار عبادة، ومجلس شورى، ومعهد علم، وتعليم، وتربية، ومجلس ضيافة، يأتي ضيف إلى المسجد، ومكان حوار بين الأطراف مع الوفود القادمة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومأوى للمهاجرين، ومصنعاً للأبطال، وحبساً للأسرى، ومجلس دعوة إلى الله، إلى غير ذلك من المهمات الجليلة.
هذه المهمات الجليلة في آخر الزمان مُسخت إلى أداء الصلوات فقط، وهو في الحقيقة مجلس شورى، مدرسة تعليم، بناء أمة، تدريب، حوار، استقبال ضيوف، مأوى للفقراء، في أجنحة تابعة للمسجد.
وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قدوة ومثلاً أعلى في بنائه، ووضع أساسه وتحديد قبلته، فهو في الوقت نفسه القدوة والمثل الأعلى للمسلمين في القول، والعمل والسلوك، كان بنفسه يبني المسجد.
بالمناسبة: بناء المسجد وسام شرف، وأذكر عالما كبيرا من علماء مصر كان مقيما في مكة المكرمة وقت توسعة الحرم، حدث عن نفسه فقال: عمل أياماً طويلة وشهوراً في نقل التراب من مكان إلى مكان، على علو قدره، لأن بناء المسجد وسام شرف للمؤمن.
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ﴾
(سورة البقرة الآية: 127 )
مرة زرت إنسانا يعمل في خدمة المسجد، لكن لفت نظري أن المسجد نظيف نظافة تفوق حد الخيال، وكأنه بيت لامرأة أصيبت بوسوسة النظافة، فمن مستحيل أن تصلي ببذلة ذات لون داكن، وأنت ترى شيئاً أبيض عند ركبتيك، لتنظيف السجاد اليومي بالآلات حديثة مع الماء والغسيل، فكان هذا الأخ يتفانى في خدمة المسجد، إن تدخلت إلى مرافقه العامة فكأنها في بيت، صاحبته مصابة بوسوسة النظافة، سألته، قال لي: هذه صنعة الأنبياء.
﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾
(سورة البقرة الآية: 125 )
خدّام المساجد تحفِّزهم هذه الآية حفزاً لا يعقل.
﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾
(سورة البقرة)
إذاً: خدمة المسجد وسام شرف، وأنا أقول دائماً: لو أن إنسانا أخذ قشة من المسجد، ووضعها في جيبه كان له أجر، وجد قشة يجب ألا تكون، حملها، ووضعها في جيبه، هذا من تعظيم الله عز وجل، لقول تعالى:
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾
(سورة الحج)
بيت النبي (ص) وحجرات أزواجه كانت بجوار المسجد:
وكان بناء حجراته وسكناه بجوار المسجد، أنا أرى البيت المجاور للمسجد له ميزة كبيرة جداً، تستمع إلى الأذان، وللصلوات الخمس، فتبادر إلى الصلاة في المسجد، وأنت جار المسجد، وصلاة الجماعة تعدل صلاة الفرد بـ 27 ضعفا، وأنا أتمنى إذا اشترى إنسان بيتا أن يلحظ أن يكون قريباً من المسجد.
لذلك كان عليه الصلاة والسلام حجراته وسكانه بجوار المسجد، وبابه مشرّع إليه، ويعجبني كثيراً أن يبنى المسجد ومعه بيت للإمام، وللخادم، ولما تؤمِّن للإنسان بيتا فإنه يستقر، والآن مساجد عديدة فيها بيت للخادم والإمام، وما دام المسجد في مركز المدينة فالنبي عليه الصلاة والسلام كانت بيوته حول المسجد، وهي في وسط المدينة.
بعض العلماء يحرصون على أن تكون بيوتهم في مركز معقول، أحيانا يختار مكانا بعيدا جداً مريحا، لكنه بعيد عن حاجات الناس.
فحجرات النبي عليه الصلاة والسلام تسهل لقاء الناس معه، وسؤالهم إياه وتعاونهم، وتظافرهم حوله، ومعه، وبه، فكانوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، لكن حدث تطور جديد:
لما توسعت المدينة وامتدت، والأطفال يصعب عليهم أن يأتوا إلى المسجد أمر النبي بإنشاء مساجد في أطراف المدينة، هذه حاجة، فهناك مسجد مركزي، ومساجد للأطفال وللضعفاء، وللمتقدمين في السن، هذه المساجد قريبة من بيوتهم.
لابد من توسيع رسالة المسجد:
أنا أفرح أشد الفرح حينما أرى في معظم المساجد معاهد تحفيظ قرآن للأطفال في الصيف يتعلمون القرآن، ويكون مأوى لهم، والعطلة الصيفية مشكلة كبيرة لأسرة لا ينضبط أبناؤها.
والله مرة سافرت إلى بلدة في الشرق، دخلت إلى المسجد فلم أجد مكانا، كل الحاضرين صغار يتعلمون القرآن الكريم، الآن بعض المعاهد تستغل الوقت فتقيم معهدا صباحيا ثانويا، ومعه توقيت مسائي للجامعيين، ففي النهار هذه القاعة للصف السادس الشرعي، ومساء هذه القاعة لاختصاص الشريعة والقانون، فلما نستخدم البناء مرتين فهذا نوع من الاستغلال للبناء، أنا أتمنى أن يوظف المسجد في وظائف لا تعد ولا تحصى.
الآن مكتبة مثلاً، الكتب غالية، فإذا وُحِدت مكتبة في المسجد فهذا شيء جميل، أحياناً مستوصف، الآن بعض المساجد معها مستوصف، المحسنون يؤسسون هذا المستوصف فيه أطباء للمعالجة العامة، ومعالجة داخلية، وقلبية، وجلدية، فيه أجهزة، فيه أدوات، فيه موظفون، فصار المسجد فيه مكتبة، ومستوصف، و مدرسة، وملحق معه معهد، وجمعية خيرية، ومكان للدعوة، ومكان للقاءات، ومكان للحوار، ومكان للضيوف، هذا الذي أتمناه أن يستعيد المسجد دوره القديم، لأن وظائف المسجد لا تعد ولا تحصى، وهي كثيرة جداً.
لكن بالمناسبة، لو أن قرية فيها ثلاثة مساجد، أحد المساجد يتسع لكل أبناء القرية من أجل وحدة الشمل، لا يجوز أن تكون صلاة الجمعة إلا في مسجد واحد، إذا كان أحد المساجد يستوعب أهل القرية كلهم، إذاً: الصلاة صحيحة في واحد، وغير هذا الواحد الصلاة غير صحيحة.
لذلك قالوا كقاعدة: الجمعة لمن سبق، يعني أول مسجد تقام فيه الجمعة فيه الصلاة صحيحة، أما الآن دمشق فيها خمسة ملايين ونصف مليون، ولا يوجد جامع يمكن أن يستوعبهم، إذاً: جميع المساجد صلاة الجمعة فيها صحيحة، فلا حاجة أن نصلي الظهر، والسادة الشافعية يصلون الظهر احتياطاً.
الجانب الشكلي في المسجد النبوي:
وكان المسلمون يستنيرون ليلاً بإشعال سعف النخل في مؤخرة المساجد، سبحان الله مفارقة حادة، المساجد كبيرة، مزدانة، مزخرفة، مدفأة شتاء، مكيفة صيفاً، فيها إنارة ، فيها ثريات، فيها منابر، فيها أماكن تدريس، فيها أبهاء، فيها صحن كبير، والمسلمون يغزون في عقر دارهم.
قديماً كان المسجد أرضه من البحص، وسقفه من سعف النخيل، وقد حدثني أحد الإخوة الكرام أن المسجد النبوي الروضة فيه خضراء، والمسجد الحالي يغطي مساحة المدينة المنورة كلها، أي إن حدود المسجد الحالي حدود المدينة في عهد رسول الله كلها، والروضة الشريفة مع المحراب، مع السواري، هذه مساحة المسجد في عهد رسول الله، فالعبرة بالقلوب المؤمنة، لا بالثريات المتألقة.
تميم الداري كان في الشام فاشترى قناديل وحبالا، وجاء إلى المسجد النبوي، وعلق القناديل بالحبال، وأشعل القناديل، ثم دخل النبي عليه الصلاة والسلام فسرَّ بهذه القناديل سروراً عظيماً، وسأل: من فعل هذا ؟ قالوا: تميم الداري، فأثنى عليه ثناء كبيراً.
لذلك خدمة المسجد شرف كبير، تروي روايات أن المسجد النبوي الشريف استغرق بناءه سبعة أشهر، والنبي عليه الصلاة والسلام يسكن في دار أبي أبوب الأنصاري، ثم نقل سكنه إلى حجرتي سوده بنت زمعة وعائشة زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثمّ بنيت باقي الحجرات تباعاً.
أنا أتمنى أن يكون المسجد مكان عبادة أولاً، ومكان تدريس ثانياً، ومكان لقاء ثالثاً، ومكان حوار رابعاً، وفيه مكتبة، وفيه مستوصف، وفيه مدرسة، وفيه مرافق كثيرة، فلعل الله سبحانه وتعالى يعيد لنا مجد المساجد، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
((خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق )).