مجدي داود
نتحدث اليوم عن أحد مساجد المسلمين، والذي كان له دور عظيم في تاريخ الأمة الإسلامية، وصار رمزًا من رموزها العلمية، خرَّج أجيالاً وأعلامًا من العلماء الكرام في العلوم الشرعية وغيرها، جامع وجامعة قبل أن توجد الجامعات في العالم، إنه جامع القرويين هو أشهر مساجد مدينة فاس المغربية وأكبرها، ويقال: إنه أكبر مساجد شمال إفريقية وأشهرها، باعتباره أقدم جامعة إسلامية.
يرجع بناء مسجد القرويين إلى عهد دولة الأدارسة، أول دولة إسلامية أُسست بالمغرب، وهي التي اتخذت من فاس عاصمة لها، وأسس الجامع إدريس الثاني سنة 193هـ، إلا أنه كان في نشأته الأولى صغيرًا بسيطًا، وعُرف بجامع الشرفاء أو الأشراف، ثم وهبت السيدة فاطمة بنت محمد الفهري عام 245هـ/859م؛ كل ما ورثته من أموال لبناء الجامع، وقد سمي الجامع بالقرويين نسبة إلى القيروان مدينة فاطمة الفهرية.
عمارة المسجد
كان الجامع عند إنشائه يتكون من الصحن ورواق القبلة، الذي كان يشتمل على أربع بلاطات تسير عقودها موازية لجدار القبلة، يخترقها مجاز قاطع يمتد من الصحن إلى المحراب، متعامدًا على جدار القبلة، وكان يتميز بأنه أكثر ارتفاعًا من باقي البلاطات، وكان عرض الجامع حوالي 30م وبه صومعة (مئذنة) قليلة الارتفاع عن الواجهة الشمالية للجامع في محور المحراب، كما هو الحال في جامع القيروان وجامع قرطبة.
ولما كثر عدد سكان عدوة القرويين سارع المحسنون من أتقياء القوم إلى توسيع المسجد، والإنفاق في سبيل إصلاحه وترميمه.
كان أهل المدينة وحكامها يقومون بتوسعة المسجد وترميمه والقيام بشئونه، وقد أضاف الأمراء الزناتيون بمساعدة من أمويي الأندلس حوالي 3 آلاف متر مربع إلى المسجد، وقام بعدهم المرابطون بإجراء توسعة أخرى.
لا تزال الصومعة المربعة الواسعة في المسجد قائمة إلى الآن من يوم توسعة الأمراء الزناتيين عمال عبد الرحمن الناصر على المدينة، وتعد هذه الصومعة أقدم منارة مربعة في بلاد المغرب العربي.
قام المرابطون بإجراء إضافات على المسجد، فغيّروا من شكله الذي كان يتسم بالبساطة في عمارته وزخرفته وبنائه إلا أنهم حافظوا على ملامحه العامة، وأبرز ما تركه المرابطون في المسجد هو المنبر الذي لا يزال قائمًا إلى اليوم.
ثم قام الموحدون بوضع الثريا الكبرى والتي تزين المسجد إلى اليوم.
وللمسجد سبعة عشر بابًا وجناحان يلتقيان في طرفي الصحن الذي يتوسط المسجد، كل جناح يحتوي على مكان للوضوء من المرمر، وهو تصميم مشابه لتصميم صحن الأسود في قصر الحمراء في الأندلس.
جامعة إسلامية
لم يكتفِ أئمة القرويين بجعل المسجد عبارة عن مكان لأداء الصلاة وبقية العبادات، بل ذهبوا لأبعد من ذلك بكثير، فقد أحالوا المسجد إلى جامعة إسلامية معروفة ومشهورة في العالم كله، وذلك نابع عن إدراكهم لأهمية المسجد في نشر العلم وبناء الحضارة.
فبعد بناء الجامع قام العلماء بإنشاء حلقات لهم فيه، كان يجتمع حولها العديد من طلاب العلم، وبفضل الاهتمام الفائق بالجامع مِن قِبل حكام المدينة المختلفين تحولت فاس إلى مركز علمي ينافس مراكز علمية ذائعة الصيت كقرطبة وبغداد.
ويعتقد أن القرويين قد انتقل من مرحلة الجامع إلى مرحلة البداية الجامعية في العهد المرابطي؛ حيث قام العديد من العلماء باتخاذ المسجد مقرًّا لدروسهم.
وبحسب النصوص المتوفرة؛ فإن القرويين دخل مرحلة الجامعة الحقيقية في العصر المريني؛ حيث بُني العديد من المدارس حوله، واستجمع عناصر النهضة ومقومات التطور، فتوفرت له خصائص ومميزات الجامعة، وتحققت له شخصيتها العلمية، وذلك في إطار استقدام الأساتذة واستقبال الطلبة وتقرير المواد والعلوم المدروسة والإجازات، وتكوين مكتبة علمية متنوعة التخصصات.
وهكذا ظلت جامعة القرويين تقوم بواجبها أحسن قيام وبشكل تلقائي، واستمر إشعاعها مشعًّا على العالم الإسلامي لمدة قرون من الزمن، وكوَّنت بذلك أجيالاً من العلماء الذين طبقت شهرتهم الآفاق، ولا يزال عطاؤهم وإنتاجهم العلمي والفكري قائمًا ينهل منه الباحثون جيلاً بعد جيل.
علماء القرويين
ومن أشهر من درّس في القرويين الفقيه المالكي أبو عمران الفاسي؛ فقيه أهل القيروان في وقته، وأبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الشهير بابن البنّاء المراكشي، وهو أشهر رياضي في عصره، وابن العربي وابن رشيد السبتي، وابن الحاج الفاسي، وابن ميمون الغماري.
ونظرًا لأهميته العلمية ومكانته السامية، فقد صار جامع القرويين ملاذ العلماء المسلمين، الذين نزحوا إليه من الأندلس بشكل عام، ومن قرطبة بعد سقوطها بشكل خاص؛ هربًا من بطش النصارى المتعصبين، كما كان ملجأً للعلماء الذين نزحوا إليه من مدينة القيروان، هربًا من تعسف الفاطميين الذين حاولوا فرض مذهبهم الإسماعيلي الشيعي بالقوة على علماء أهل السنة.
أقوال المستشرقين
يقول المستشرق الروسي جوزيه كريستوفيتش،: "إن أقدم كلية علمية في العالم ليست في أوروبا- كما يظن البعض- بل في إفريقيا في مدينة فاس، فقد تحقق بالشواهد التاريخية أن جامعة القرويين كان يتوارد إليها الطلبة من أنحاء أوروبا، فضلاً عن بلاد العرب الواسعة..".
كما كتب الكاتب البريطاني "روم لاند": ".. شُيّد في فاس في أيامها الأولى جامع القرويين الذي هو أهم جامعة وأقدمها، وهنا كان العلماء منذ ألف سنة يعكفون على المناظرات الفلسفية والأبحاث الدينية، وكان المثقفون يدرِّسون التاريخ والعلوم والطب والرياضيات..".
ويؤكد عددٌ من المستشرقين أن الدولة الإسلامية عَرَفَتْ نظام الجامعات قبل الدول الغربية، وأن جامع القرويين وجامع الأزهر وجامع الزيتونة أسبق من جامعات السوربون، وكمبردج، وأكسفورد.